مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

السبت، 31 يوليو 2021

ج 1. / 2.. شرح علل الترمذي ج1./2. شرح عِلَلِ التِّرْمِذِيِّ لابي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

 

 
ج 1. / 2..وقد روي عنه أنه قال : (( من زعم أني قلت : لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب ، فإني لم أقل هذه المقالة ، إلا أني قلت : أفعال العباد مخلوقة )) .
وروى عنه أنه قال : (( هذه مسألة مشؤومة – يعني مسألة اللفظ – رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة ! جعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها )) .
ووللبخاري تصانيف كثيرة ، وقد سبق الناس إلى تصنيف الصحيح والتاريخ ، والناس بعده تبع له في هذين الكتابين ، إذ كل من صنّف في هذين العلمين يحتاج إلى كتابه . وقد كان أبو أحمد الحاكم يعيب من صنف فيهما بعده ، ويزعم أنهم أخذوا كتابي البخاري ، ولا ريب أنهم استعانوا بهما ، وزادوا عليهما ، والله يغفر لنا ولهم أجمعين . آمين .
ومنهم عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام :
ابن عبد الصمد السمرقندي الدارمي ، يكنى أبا محمد أحد الأئمة الحفاظ المبرزين ، والعلماء العاملين ، وقد صنف المسند والجامع والتفسير . وامتحن في مسألة القرآن فلم يجب . وألحّ عليه السلطان في قضاء سمرقند ، فتقلده وقضى قضية واحدة ثم استعفى فأعفى .
وكان الإمام أحمد إذا ذكره قال : (( ذاك السيد عرض على الكفر فلم يقبل ، وعرضت عليه الدنيا فلم يقبل )) .
وقال أحمد : (( هو إمام )) .
قال محمد بن بشار بندار : (( حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ، ومحمد بن إسماعيل ببخارى . قال بندار : وهم غلماني ، خرجوا من تحت كرسي )) .
وروي عن الإمام أحمد قال : (( انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان : أبي زرعة الرازي ، ومحمد بن إسماعيل ، وعبد الله ابن عبد الرحمن السمرقندي ، والحسن بن شجاع البخلي )) .
ثم قال : (( أبو زرعة أحفظهم ، والبخاري أعرفهم ، وابن شجاع للأبواب ، والسمرقندي أتقنهم )) . ذكره يحيى بن منده بإسناده .
وقال محمد بن عبد الله بن نمير : (( غلبنا عبد الله بن عبد الرحمن بالحفظ والورع )) .
وعن أبي حاتم الرازي قال : (( محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق ، ومحمد بن يحيى أعلم من بخراسان اليوم ، ومحمد بن أسلم أورعهم ، وعبد الله بن عبد الرحمن أثبتهم )) .
وعنه قال : (( عبد الله بن عبد الرحمن إمام أعل زمانه )) .
وعن رجاء بن المرجا قال : (( رأيت أحمد ، وإسحاق ، وابن المديني ، والشاذكوني ، فما رأيت أحفظ من عبد الله ، - يعني الدارمي - .
وعن رجاء أيضاً قال : (( ما رأيت أحداً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عبدالله بن عبد الرحمن )) .
وعن أبي حامد الشرقي قال : (( إنما أخرجت خراسات من أئمة الحديث خمسة رجال : محمد بن يحيى ، ومحمد بن إسماعيل ، وعبد الله بن عبد الرحمن ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب))
وقال ابن حبان : (( كان عبد الله بن عبد الرحمن من الحفاظ المتقنين ، وأهل الورع في الدين ، ممن حفظ وجمع ، وتفقه وصنف وحدث ، وأظهر السنة في بلده ودعا إليها ، وذب عن حريمها ، وقمع من خالفها )) .
وقال محمد بن إبراهيم بن منصور الشيرازي : (( كان عبد الله ابن عبد الرحمن على غاية من العقل والديانة ، من يُضرب به المثل في الحلم والرزانة ، والحفظ والعبادة والزهادة ، أظهر علم الحديث والآثار بسمرقند ، وذب عنها الكذب ، وكان مفسراً كاملاً ، وفقهياً عالماً . رحمه الله تعالى )) .
* * *
*
فصل من قوانين رواية الحديث *
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
والقراءة على العالم إذا كان يحفظ ما يقرأ عليه ، أو يمسك أصله فيما يقرأ عليه إذا لم يحفظ ، هو صحيح عند أهل الحديث ، مثل السماع .
حدثنا حسين بن مهدي البصري ثنا عبد الرزاق أنبا ابن جريج قرأت على عطاء بن أبي رباح ، فقلت له : كيف أقول ؟ قال : (( قل : ثنا )) .
حدثنا سويد بن نصر أنا علي بن الحسين بن واقد عن أبي عصمة عن يزيد النحوي عن عكرمة أن نفراً قدموا على ابن عباس من أهل الطائف بكتب من كتبه ، فجعل يقرأ عليهم ، فيقدم ويؤخر ، فقال : (( إني بليت بهذه المصيبة ، فاقرأوا عليّ ، فإن إقراري بها كفراءتي عليكم )) .
حدثنا سويد بن نصر أنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن منصور بن المعتمر قال : (( إذا ناول الرجل كتابه آخر فقال : ارو هذا عني فله أن يرويه )) .
قال أبو عيسى : وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : (( سألت أبا عاصم النبيل عن حديث قال : إقرأ علي ، فأحببت أن يقرأ هو ، فقال : أنت لا تجيز القراءة ، وكان سفيان الثوري ومالك بن أنس يجيزان القراءة ؟! )) .
حدثنا أحمد بن الحسن ثنا يحيى بن سليمان الجعفي المصري قال : قال عبد الله بن وهب : (( ما قلت : ثنا ، عهو ما سمعت مع الناس ، وما قلت : حدثني فهو ما سمعت وحدي ، وما قلت : أنا فهو ما قرئ على العالم وأنا شاهد ، وما قلت : أخبرني فهو ما قرأت على العالم يعني أنا وحدي )) .
سمعت أبا موسى محمد بن المثنى يقول سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : (( ثنا أنا وحدي )) .
قال أبو عيسى : (( وكنا عند أبي مصعب المديني ، فقرئ عليه بعض حديثه ، فلما فرغ منه ، كيف نقول ؟ قال قل : ثنا أبو مصعب )) .
قال أبو عيسى : وقد أجاز بعض أهل العلم الإجازة . وإذا أجاز العلم لأحد أن يروي عنه شيئاً من حديثه فله أن يروي عنه .
حدثنا محمود بن غيلان أنا وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز عن بشير بن نهيك قال : (( كتبت كتاباً عن أبي هريرة ، فقلت : أرويه عنك ؟ قال نعم )) .
أخبرنا محمد بن إسماعيل الواسطي ثنا محمد بن الحسن الواسطي عن عوف الأعرابي قال قال رجل للحسن : (( عندي بعض حديثك ، أرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
قال أبو عيسى : ومحمد بن الحسن الواسطي إنما يعرف بمحبوب بن الحسن ، وقد حدث عنه غير واحد من الأئمة .
حدثنا الجارود نا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر قال : أتيت الزهري بكتاب ، فقلت : هذا من حديثك ، أرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
حدثنا أبو بكر بن علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد قال : (( جاء ابن جريج إلى هشام بن عروة بكتاب ، فقال : هذا حديثك ، أرويع عنك ؟ قال : نعم )) .
قال يحيى فقلت في نفسي : (( لا أدري أيهما أعجب أمراً )) .
قال علي : (( سألت يحيى عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني ؟ فقال : ضعيف . فقلت : إنه يقول : أخبرني ؟ قال : لا شئ ، إنما هو كتاب دفعه إليه )) ) .
ذكر الترمذي رحمه الله تعالى ههنا مسائل من مسائل تحمل الحديث وروايته .
المسألة الأولى : مسألة العرض
وهو القراءة على العالم
وقد ذكر أنه صحيح عند أهل الحديث ، مثل السماع من لفظ العالم ، وهذا يشعر بحكاية الإجماع على ذلك . وقد ذكر جوازه عن عطتء ، وسفيان الثوري ، ومالك ، وابن وهب .
وأما الأثر الذي أسنده عن ابن عباس فلا يصح . وأبو عصمة – في إسناده – هو نوخ بن أبي مريم .
وقد خرجه عبد الغني من طريق نعيم بن حماد ثنا نوح بن أبي مريم هن يزيد النحوي به ، فذكره .
وخرّج أيضاً من طريق نعيم بن حماد ثنا نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن هبيرة عن علي قال : (( القراءة على العالم والسماع منه بمنزلة )) .
ونوح بن أبي مريم مشهور بالكذب ووضع الحديث .
وخرجه أبو بكر الخطيب من طريق سلم بن سالم عن نوه بن أبي مريم ، به .
وخرج أيضاً حديث ابن عباس من طريق الحسين بن الحسن الأشقر عن سلم بن سالم عن زياد بن أبي أبي مريم عن يزيد النحوي به ، ثم ثال : (( هكذا قال : عن زياد بن أبي مريم ، والصواب : نوح ابن أبي مريم )) .
وخرّج الخطيب أيضاً من طريق أبي مقاتل السمرقندي عن سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن علي قال : (( القراءة على العالم أصح من قراءة العالم بعد ما أقوّ أنه حديثه )) .
وهذا أيضاً كب على سفيان ، وأبو مقاتل قد تقدم أنه منهم بالكذب .
وخرج الرامهرمزي في كتابه المحدث الفاصب من طريق محمد بن منصور الجوّاز عن يحيى بن سليم عن ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : (( اقرؤا عليّ ، فإن قراءتكم عليّ كفراءتي عليكم )) .
ويحيى بن سليم تركه أحمد . ولعل ابن جريج دلسه عن غير ثقة .
وخرج الخطيب من طريق إسحاق بن الضيف عن إبراهيم بن الحكم حدثني أبي عن عكرمة قال : قال ابن عباس : (( اقرؤا عليّ ، فإن قراءتكم عليّ كفراءتي عليكم )) .
وإبراهيم بن الحكم ضعيف .
ورواه أيضاً حفص بن عمر العدئي – وهو ضعيف – عن الحكم بن أبان بنحو سياق أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، خرجه البيهقي من طريقه ولا يصح هذا عن علي ، ولا عن ابن عباس .
وقد روى عن أبي هريرة من طريق علي بن معبد : ثنا شعيب بن إسحاق الدمشقي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة إن شاء الله عن بشير بن نهيك قال : (( كنت آتي أبا هريرة فآخذ منه الكتب ، فأنسخها ، ثم أقرؤها عليه ، فأقول : هذه سمعتها منك ؟ فيقول : نعم )) : هذا إسناد مشكوك فيه ، والصحيح عن بشير بن نهيك خلاف هذا اللفظ ، وسنذكره )) .
وقد روي عن طائفة من التابعين ومن بعدهم .
قال مروان بن معاوية عن عاصم الأحول : (( قرأت على الشعبي أحاديث ، فأجازها لي )) .
وروي أيضاً عن مروان إسماعيل عن الشعبي مثله .
وروى أبو بحمه حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين أنه كان يجيز العرض .
وروى داود عن عطاء المديني – وفيه ضعف – عن هشام بن عروة عن أبيه قال : (( عرض الكتاب والحديث سواء )) .
وعن جعفر بن محمد عن أبيه مثله .
وروى حنبل بن إسحاق والأثرم قالا : نا أبو عبد الله نا محمد ابن الحسن الواسطي ثنا عوف أن رجلاً قال للحسن : (( معي أحاديث فإن لم تكن ترى بالقراءة بأساً قرأت عليك . قال : ما أبالي قرأت عليك ، أو قرأت عليّ وأخبرتك أنه حديثي ، أو حدثتك به .
قال : يا أبا سعيد ، فأٌول : حدثني الحسن ؟ قال : نعم )) .
ورواه يحيى بن معين عن محمد بن الحسن الواسطي أيضاً .
وخرجه البخاري في صحيحه عن محمد بن سلام نا محمد ابن الحسن الواسطي عن عوف عن الحسن قال : (( لا بأس بالقراءة على العالم )) .
ومحمد بن الحسن الواسطي هو الذي ذكره الترمذي هاهنا أنه يقال له : محبوب . وقد قال ابن معين : لا بأس به ، وخرج به البخاري في صحيحه ، وضعفه النسائي .
وهذا يخالف اللفظ الذي خرجه الترمذي عن محمد بن إسماعيل ، وهو الحسّاني .
وقد رواه محمد بن مخلد العطار عن الحسّلني كما رواه عنه الترمذي ، إلا أن لفظه : (( قال رجل للحسن : إن عندي كتاباً من علمك فأرويه عنك ؟ قال : نعم )) .
وفي روايته أن محمدبن الحسن الواسطي هو المزني . والمزني كان قاضي واسط ، ليس هو محبوباً ، وهو أيضاً ثقة ، خرج له البخاري ، وقال أحمد : (( ليس به بأس )) . وقيل : إن محبوباً بصري ليس بواسطي .
وخرج الرامهرمزي هذا الحديث من طريق إسحاق بن عيسى نا محمد بن الحصين الواسطي قال : (( وقال : في موضع آخر : ثناء ) محمد بن يزيد الواسطي ثنا عوف فذكره .
قلت : ما كأن إسحاق حفظ نسب هذا الرجل .
وممن روي عنه الرخصة في العرض :
من التابعين ومن بعدهم : مكحول ، والزهري ، وأيوب السختياني ، ومنصور بن المعتمر ، وشريك . وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، ومسعر ، وأبي حنيفة ، والليث بن سعد ، وابن عيينة ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم من أهل العلم .
وكان شعبة يبالغ فيقول : (( القراءة عندي أثبت من السماع )) ، ووافقه على ذلك يحيى القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي .
وروي نحوه عن ابن أبي ذئب ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والليث ، والثوري . وهو قول أبي حاتم ، وأبي عبيد .
وقال إسحاق بن هانئ : (( كنت أقرأ على أبي عبد الله – يعني أحمد – الحديث وأنا أنظر في كتابه ، وهو ينظر معي ، فقال لي : هذا أحب إلىّ من أن أقرأ أنا عليك ، قلت له أقول : حدثني ؟ قال : قل إن شئت ، ولكن أحب إليّ أن تصدق أن تقول قرأت )) .
وكره طائفة العرض :
منهم وكيع ، ومحمد بن سلاّم ، وأبو مسهر ، وأبو عاصم ، وحكي ذلك عن أهل العراق جملة ، وكان مالك ينكره عليهم .
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : (( لا يحل للرجل أن يوري الحديث إلا إذا سمعه من فم المحدث فيحفظه ثم يحدث به )) .
واستدل البخاري وغيره على صحة العرض بحديث ضمام بن ثعلبة ، وقد ذكر الترمذي ذلك عند تخريجه لحديثه في أول كتاب الزكاة .
واستدل مالك وغيره بعرض القرآن على القارئ ، وبقراءة الصحيفة بالدّين على من عليه الجق ، فيقر بها فيشهد عليه .
وقد اشترط الترمذي لصحة العرض على العالم أن يكون العالم حافظاً لما يعرض عليه ، أو يمسك أصله بيده عند العرض عليه إذا لم يكن حافظاً .
ومفهوم كلامه أنه إذا لم يكن المعروض عليه حافظاً ولا أمسك أصله أنه لا تجوز الرواية عنه بلك العرض .
وقد قال أحمد في رواية حنبل : (( لا بأس بالقراءة إذا كان رجل يعرف ويفهم ويبين ذلك )) .
قال سعيد بن مروان البغدادي سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي يقول : (( القراءة على مالك بن أنس مثل السماع من غيره )) .
وهذا يرجع إلى أصل :
وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث . فإنه لا نجوز الرواية عنهما ، ولا تلقينهما ، ولا القراءة عليهما من كتاب .
وقد نص على ذلك أحمد – في رواية عبد الله – في الضرير والأمي : لا يجوز أن يحدثا إلا بما يحفظا ، وقال : (( كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشئ الذي نرى أنه لا يحفظه يقول : في كتابي كذا وكذا ، ولا يقول : ثنا وسمعت )) .
وكذلك قال يحيى بن معين في الضرير والأمي ، نقله عنه عبد الله بن أحمد ، وعباس الدوري .
وقال أبو خيثمة : (( كان يعاب على يزيد بن هارون أنه كان بعد ما أضر يأمر من يلقنه حديثه من كتابه ويتحفظه )) .
وأنكر طائفة على من كان يكتب من كتب موسى بن عبيدة الربذي ثم يقرؤها عليه ، وكان أعمى .
وذكر ابن المديني عن أبي معاوية الضرير أنه قال : (( ما سمعته من الشيخ وحفظته عنه قلت : ثنا ، وما قرئ عليّ من الكتب قلت : ذكر فلان )) .
وكان عبد الرزاق يتلقن ممن يثق به ، كما كان يزيد ابن هارون يفعله .
وعلى قول هؤلاء يجوز العرض على الشيخ ، وإن كان ضريراً لا يحفظ ، أو أمياً لا كتاب بيده إذا كان العرض ممن يوثق به .
وقد رخص ابن معين في السماع ممن يتلقن إذا كان يعرف حديثه ، ويعرف ما يدخل عليه ، فإن لم يعرف ما يدخل عليه فإنه كرهه .
وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام :
حافظ متقن من يحدث من حفظه ، فهذا لا كلام فيه .
وحافظ نسي فلقن حتى ذكر ، أو تذكر حديثه من كتاب ، فرجع إليه حفظه الذي كان نسيه ، وهذا أيضاً حكمه حكم الحافظ ، وكان شعبة أحايناً يتذكر حديثه من كتاب .
ومن لا يحفظ شيئاً وإنما يعتمد على نجرد التلقين ، فهذا هو الذي منع أحمد ويحيى من الأخذ عنه . واختلف العلماء أيضاً في :
التحديث من الكتاب
إذا كان المحدث لا يحفظ ما فيه ، وهو ثقة
فقال مالك : لا يؤخذ العلم عمن هذه الصفة صفته ، لأني أخاف أن يزاد في كتبه بالليل .
وحُكي أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله .
وعلى قول هؤلاء فلا يجوز العرض على من لا يحفظ ، وأن أمسك الكتاب ، كما لا يجوز له أن يحدث من الكتاب ولا يحفظ ، وأولى .
وهكذا اشترط عثمان بن أبي شيبة في العرض أن يكون العالم يعرف ما يُقرأ عليه . ورخص طائفة في التحديث من الكتاب لمن لا يحفظ .
منهم : مروان بن محمد ، وابن عيينة ، وابن مهدي ، ويحيى بن معين ، وغيرهم .
وهذا إذا كان الحفظ معروفاً موثوقاً به ، والكتاب محفوظاً عنده . فإن غاب عنه كتابه ثم رجع إليه فكان كثير منهم يتوقى الرواية منه خشية أن يكون غيّر فيه شئ .
منهم : ابن مهدي ، وابن المبارك ، والأنصاري .
ورخص فيه بعضهم ، منهم : يحيى بن سعيد .
وقال أحمد – في رجل يكون له السماع مع الرجل أله أن يأخذه بعد سنين ؟ - قال : (( لا بأس به إذا عرف الخط )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( إنما يجوز هذا إذا لم ير فيه أثر تغيير حادث من زيادة أو نقصان أو تبديل ، وسكنت نفسه إلى سلامته ، قال : وعلى ذلك يحمل كلام يحيى بن سعيد )) .
قلت : (( وكذا إن كان له فهم ومعرفة بالحديث وإن لم يكن يحفظه .
وقد قال أبو زرعة لما رُدّ عليه كتابه ورأى فيه تغيراً : (( أنا أحفظ هذا ، ولو لم أحفظه لم يكن يخفى عليّ )) .
وقد قال أحمد في الكتاب – قد طال على الإنسان عهده لا يعرف بعض حروفه فيخبره بعض أصحابه ، ما ترى في ذاك ؟ - قال : (( إذا كان يعلم كما في الكتاب فليس به بأس )) . نقله عنه ابن هانئ .
واختلفوا في المحدث الذي لا يحفظ
إذا حدث من كتاب غيره
فرخص طائفة فيه إذا وثق بالخط ، منهم ابن جريج ، وهو اختيار الإسماعيلي .
وقال أحمد : (( ينبغي للناس أن يتقوا هذا )) .
وكان يحيى بن سعيد يعيب قوماً يفعلونه .
وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال : (( ما بالكوفة مثل هنّاد بن السري هو شيخهم )) . فقيل له : (( هو يحدث من كتاب ورّاقة )) . فجعل يسترجع ، ثم قال : (( إن كان هكذا لم يكتب عن هنّاد شئ )) .
هذا كله إذا قرأ القارئ على العالم وليس معه أحد ، فإن كان معه أحد يسمع معه فقالت طائفة : لا بد لمن يسمع معه أن ينظر في نسخته ، وإلا فلا يصح سماعه ، منهم ابن وارة وغيره .
وكذا قالوا في المحدث إذا قرأ عليهم من كتابه ولم ينظروا فيه ، ثم نسخوا من الكتاب من غير نظر ولا حفظ . وكاذ إذا أملى المحدث فكتب عنه بعضهم ، ثم نسخ الباقون من كتابه من غير حفظ .
وذكر أحمد عن عبد الرزاق أن سفيان لما قدم عليهم اليمن جاءوا بمن يكتب ، وكانوا ينظرون في الكتاب ، فإذا فرغ ختموا الكتاب حتى ينسخوه .
وروى ابن عدي بإسناده عن معمر قال : (( اجتمعت أنا وشعبة والثوري وابن جريج فقدم علينا شيخ فأملى علينا أربعة الآلإ حديث عن ظهر قلب ، فإذا جن الليل ختمنا الكتاب فوضعناه تحت رؤوسنا ، وكان الكاتب شعبة ، ونحن ننظر في الكتاب )) .
وذكر الخلال عن علي بن عبد الصمد المكيّ قال : قلت لأحمد ابن حنبل – ونحن في مجلس نسمع فيه الحديث وأنا لا أنظر في النسخة - : (( يا أبا عبد الله ، يجزيني أن لا أنظر في النسخة فأقول : حدثنا ،مثل الصك،إذا لم ينظر فيه ويشهد ؟)) . قال لي : (( لو نظرت في الكتاب كان أطيب لنفسك )) .
وذكر ابن معين عن بن أبي ذئب أنه كان يقرأ عليهم كتاباً ، ثم يلقيه إليهم فيكتبونه ولم ينظروا في الكتاب .
وروي عن مالك ما يدل عليه ، ورخص في ذلك أكثر المتأخرين ، إذا كان صاحب الكتاب مأموناً في نفسه موثوقاً بضبطه .
وروى أحمد بن حرب الموصلي عن زيد بن أبي الزرقا حدثنا سفيانالثوري في القوم يكونون جميعاً فيأتون الرجل ومعهم حديث من حديثه في كتاب ، ويكون الكتاب مع بعضهم وهو عندهم ثقة ، وهم أكثر أن يستطيعوا أن ينظروا فيخ جميعاً ، هل يدخل عليهم أن يصدقوا صاحبهم في مسائله؟)) .
قال : إنما هو بمنزلة الشهادة )) .
خرّجه الرامهرمزي ، وحمله على أن مراد سفيه الرخصة في ذلك كما يقرأ الصك على المشهود عليه بالدين ، فيقر به فيشهد عليه ممن سمعه .
وكلام أحمد يدل على مثل ذلك أيضاً ، إلا أنه استحب للسامع أن ينظر في الكتاب لتطيب نفسه .
المسألة الثانية : فيما يقول
من عرض الحديث إذا حدّث به
وقد ذكر الترمذي بإسناده عن عطاء أنه أجاز أن يقول : ثنا .
وذكره أيضاً عن أبي مصعب صاحب مالك . وعن يحيى القطان أنه قال : ثنا وأنا واحد .
وسئل محمد بن نصر المروزي : ما الفرق بين ثنا وأنا ؟ قال : سوء الخلق ! )) .
وروى محمد بن سعيد الأصبهاني عن شريك مثل ذلك .
وذكر الترمذي أيضاً عن ابن وهب أنه كان لا يقول ثنا إلا فيما سمع من لفظ العالم مع الناس ، فإذا قرئ على العالم وهو شاهد قال : أنا . وإن سمع وحده قال : حدثني . وإن قرأ وحده قال أخبرني .
والقول الأول وهو الرخصة في أن يقول من عرض على العالم (( ثنا )) هو مروي عن الحسن ، والزهري ، ومنصور ، والثوري ، ومالك ، وابن جريج ، وأبي حنيفة .
ورواه محمد بن كثير عن الأوزاعي ، وروي أيضاً عن يحيى ابن سعيد القطان .
وقد تقدم مثله عن أحمد إلا أنه استحب أن يقول : (( قرأت )) .
وقال أحمد أيضاً : (( ثنا وأنا واحد )) . نقله هنه سلمة بن شبيب وغيره .
وكذلك قال يزيد بن هارون ، والنضر بن شميل ، وأبو عاصم النبيل ، ووهب بن جرير ، وابن عيينة ، وأبو الوليد ، وإسحاق بن إبراهيم ، وروي عن مالك وسفيان أيضاً .
وقد جمع الطحاوي في التسوية بينهما جزءاً .
وأما القول الثاني : وهو أن يقول في العرض (( أنا )) وفي السماع (( ثنا )) : فهو محكي عن كائفة من العلماء ، منهم النسائي ، وقبله يونس بن عبد الأعلى .
وحكاه بعضهم عن أكثر أصحاب الحديث .
وهو مأثور عن ابن جريج ، قال يحيى بن سعيد : (( كان ابن جريج صدوقاً ، إذا قال : (( حدثني )) فهو سماع ، وإذا قال : (( أنا )) أو (( أخبرني )) فهو قراءة . وإذا قال : (( قال )) فهو شبه الريح )) . يعني أنه لم يسمعه ولم يقرأه .
وروي عن الأوزاعي أنه أمر في الروايةعنه بذلك ، وكذا نقله الربيع عن الشافعي .
وذكر أبو داود في مسائله قال قيل لأحمد : (( كأن أخبرنا أسهل من حدثنا ؟ قال : نعم ، هو أسهل ، (( ثنا )) شديد )) .
وقال عوف : إذا قرأ العالم على العالم فقال : (( حدثني )) فهي كذيبة )) .
وكذلك روي عن حماد بن زيد أنه منع العرض أن يقول : (( ثنا )) .
وقال عثمان بن أبي شيبة : (( كان ابن المبارك يقول : قرأت على ابن جريج ، ولا يقول : أنا )) .
وقال أحمد في رواية أبي داود : (( يعجبني أن يقول : كما فعل ، يقول : قرأت )) .
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : (( إذا سمعت من المحدث فقل : (( ثنا )) . وإذا قرأت عليه فقل : (( قرأت )) وإذا قُرئ عليه فقل : (( قرئ عليه )) . قال : وأحب إليّ أن يبين كما كان )) .
ولكن هذ محمول منه على الاستحباب كما تقدم ذلك صريحاً عنه ، ومن أصحابنا من حمله على الوجوب .
وقال أبو القاسم البغوي : (( كان أحمد لا يرى في العرض والإجازة (( أنا )) ولا (( ثنا )) ، إنما رأيه أن يبين الراوي كما كان )) .
وقرأ رجل على شريك ، ثم سأله فقال أقول : (( ثنا شريك )) . فقال : (( إذن تكذب )) .
وقال يحيى بن سعيد : (( ينبغي أن يحدث الرجل كما سمع ، فإن سمع ، يقول : ثنا . وإن عرض ، يقول : عرضت ، وإن كان إجازة يقول : أجاز لي )) .
وقال محمد بن كثير : (( سألت الأوزاعي عن الرجل يقرأ على الرجل الحديث يقول : (( ثنا )) ؟ قال : لا ، يقول كما صنع يقول : (( قرأت )) .
وقال ابن معين : (( أرى إذا قرأ الرجل على الرجل أن يقول : قرأت على فلان ، ولا يقول : ثنا ، وإذا قرئ على الرجل وهو شاهد فليقل : قُرئ على فلان وأنا شاهد ، يقول كما كان )) .
وقال أحمد بن صالح المصري فيمن قرأ على العالم : (( يقول قرأت . قيل له : فإن قال : ثنا ، قال : لا ينبغي له أن يقول إلا كما قرأ فإن قال : حدثنا فلم يكذب ، قيل له فإن قال : أنا وأنبأنا ؟ قال : هو دون ثنا )) .
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : (( يقول : قرأت على فلان ، ولا يقول : حدثني )) .
وقال شعبة : (( أحب إليّ أن يبين )) .
قال نعيم بن حماد : (( ما رأيت ابن المبارك قول قط ثنا كأنه يرى أنا أوسع )) .
وأما تفريق ابن وهب بين أن يكون سماعه أو عرضه وحده أو مع غيره فيقول إذا كان وحده : حدثني أو أخبرني ، وإذا كان مع غيره يقول : ثنا أو أخبرنا ، فهذا محمول على الاستحباب دون الوجوب ، وقد روي مثل ذلك عن سعيد بن أبي مريم المصري . وروي معناه عن طائفة من السلف .
قال ابن أبي خيثمة ثنا الوليد بن شجاع حدثني حمزة عن رجاء بن أبي سلمة عن ابن عون قال : (( ربما حدثنا ابن سيرين فيقول : (( حدثني أبو هريرة ، وربما قال نا أبو هريرة ، قال فيقول : كيف هذا يا أبا بكر ؟ قال : أكون وحدي فيحدثني فأقول : حدثني وأكون في جماعة فيحدثنا فأقول :ثنا .
وقال الوليد بن مزيد : (( قلت للأوزاعي : كتبت عنك حديثاً كثيراً ، فما أقول فيه ؟ )) قال : (( ما قرأته عليك وحدك فقل فيه : حدثني ، وما قرأته على جماعة أنت فيهم فقل فيه : ثنا ، وما قرأته عليّ وحدك فقل فيه : أخبرني ، وما قرأ عليّ جماعة أنت فيهم فقل فيه : أنا ، وما أجزته لك وحدك فقل فيه : خبّرني ، وما أجزته لجماعة أنت فيهم فقل فيه : خبّرنا )) .
وخرّج الخطيب كلام ابن وهب الذي خرجه الترمذي من طريق ابن أخي ابن وهب عنه ، ثم قال : (( هذا هو المستحب ، وليس بواجب عند أهل العلم )) .
ثم ذكر بإسناده عن أحمد بن صالح أنه أجاز لمن سمع وحده أن يقول : (( ثنا )) ولمن سمع مع جماعة أن يقول : (( حدثني )) .
وعن أبي داود قال : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد : (( إذا سمع الرجل وحده يقول : نا فلان ؟ )) قال : (( لا بأس )) . ومن طريق الأثرم قال قلت لأبي عبد الله : (( أليس هذا جائزاً أن يقول حدثني وهو ينوي أنه قد حدثه فيمن حدث ، ويقول أشهدني وقد أشهد جماعة ؟ )) قال : (( فظننت أنه سهل في ذلك )) .
وعن ابن المبارك قال : (( إذا حدث الرجل جماعة فليقل كل منهم حدثني )) .
وعن يحيى بن سعيد أنه رخص فيه أيضاً . قال أبو عبيد : (( كنت أسمع ابن المبارك كثيراً يقول : أخبرني . وكنت أرى أنه سمعه وحده ، حتى أخبروني أنه كان يقول إذا حدثنا فقد حدث كل واحد منا على حياله ، فلهذا استجاز أن يقول )) .
وذكر البيهقي قول ابن وهب وسعيد بن أبي مريم الذي تقدم ذكره ، وقال : هذا تفصيل حسن وعليه أدركنا مشايخنا . وهو معنى قول أحمد والشافعي رحمهما الله )) .
وذكر عبد الغني بن سعيد قا ل: سمعت الوليد بن القاسم يقول سمعت أبا عبد الرحمن النسائي يقول : (( كان إسحاق بن راهويه يقول : إذا قرأت فقل : قرأت ، وإذا قُرئ عليك فقل : قرئ ، وإذا حدثك فقل : حدثني ، وإذا حدثكم فقل : حدثنا ، قل كما كان )) .
قال عبد الغني : (( وبلغني عن أحمد بن حنبل نحوه )) .
وروى بإسناده عن أبي نعيم قال : (( أتينا موسى بن علي بمكة ، فقلت : حدثك أبوك ، قال : لا ، حدث القوم وأنا فيهم ، فقلت : فكيف تقول ؟ قال : أقول سمعت أبي )) .
المسألة الثالثة : الرواية بالمناولة
وقد أسند الترمذي عن منصور بن المعتمر أنه رخص في الرواية بها . والمناولة نوع من أنواع الإجازة ، إلا أنها أرفع أنواعها .
وصورتها : أن يدفع العالم كتابه إلى رجل ويقول : له : (( هذا حديثي أو كتابي فاروه عني أو نحو ذلك )) .
وممن رأى الراوية بها أيضاً الزهري ومالك ، والأوزاعي – في المشهور عنه - ، والليث ، وأحمد .
قال المروذي : قال أبو عبد الله : (( إذا أعطيتك كتابي فقلت لك : أروه عني وهو من حديثي فما تبالي أسمعته أم لم تسمعه )) قال : فاعطاني المسند ، ولأبي طالب مناولة )) .
وقول يحيى بن سعيد في رواية ابن جريج عن عطاء الخراساني : (( إنها ضعيفة لا شئ ، إنما هي كتاب دفعه إليه )) يدل على أنه كان لا يرى الراوية بالمناولة ، إلا أن يُحمل على أنه لم يأذن له في روايته عنه )) . وفي جواز الراوية بذلك في هذه الحال خلاف بين أهل العلم ، ذكره أبو بكر الخطيب وغيره
وروى الوليد عن الأوزاعي أن المناولة يعمل بها ولا يحدث .
ومن أنواع المناولة أن يأتي الطالب إلى العالم بجزء من حديثه قد كتبه من أصل صحيح فيدفعه إلى العالم ويستجيزه إياه ، فيجيزه له ويرده إليه ، إلا أنهم اشترطوا أن ينظر فيه العالم ويصححه إن كان يحفظ ما فيه ، أو أن يقابل به أًله إن كان لا يحفظه ، وقد فعل ذلك مالك ، وأحمد ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، واشترطه أحمد بن صالح المصري .
وقال أحمد في رواية حنبل : (( المناولة لا أدري ما هي حتى يعرف المحدث حديثه ، وما يدريه ما في الكتاب ؟ ! ، قال : وأهل مصر يذهبون إلى هذا وأنا لا يعجبني )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( أراه أراد أن أهل مصر يذهبون إلى المناولة من غير أن يعلم الراوي هل ما في الحزء حديثه أم لا والله أعلم )) .
وهذا الذي ذكره الخطيب صحيح ، وقد اعتمد أحمد في ذلك على حكاية حكاها له ابن معين عن ابن وهب أنه طلب من سفيان ابن عيينة أن يُجيز له رواية جزء أتاه به في يده ، فأنكر ذلك ابن معين ، وقال لابن وهب : (( هذا والريح بمنزلة إ
فع إليه الجزء حتى ينظر في حديثه )) .
وقد روي عن ابن شهاب جواز ذلك أيضاً ، إلا أن الخطيب تأوله على أنه كان سبق علمه بما فيه ، وفيه بعد .
وظاهر ما أسنده الترمذي عن ابن جريج وهشام بن عروة يدل على جواز ذلك أيضاً ، وروي عن مالك ما يدل عليه .
وإن قال العالم : (( إن كانت هذه من حديثي فحدث بها )) جاز ، وفعله مالك رضي الله عنه .
وظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا بد أن يكون المناول حاضراً ، فإن إذن له في رواية شئ غائب لم يجز ، فإنه قال في رواية الأثرم : كان شعيب بن أبي حمزة عسراً في الحديث ، فسألوه أن يأذن لهم أن يرووا عنه ، فقال : لا ترووا هذه الأحاديث عني )) . ثم كلموه وحضر ذلك أبو اليمان ، فقال لهم : (( ارووا تلك الأحاديث عني )) .
قيل لأبي عبد الله . (( مناولة ؟ )) قال : (( لو كان مناولة كان لم يعطهم كتباً ولا شيئاً ، إنما سمع هذا فقط )) .
فكان أبو اليمان بعد يقول : (( أنا شعيب )) ، فكأنه استحل ذلك بأن سمع شعيباً يقول لقوم : (( ارووه عني )) . قال : (( استحل ذلك بشئ عجيب ! )) وذكر أحمد ذلك على وجه الإنكار على أبي اليمان )) .
وحديث أبي اليمان عن شعيب متفق على تخريجه في الصحيحين ، وإذا كان حديث شعيب عندهم معروفاً وآذن لهم في روايته عنه ، فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته ، بل هذه إجازة من غير مناولة .
والحديث الذي خرجه الترمذي عن الحسن يدل على جواز ذلك أيضاً ، إلا أن أبا اليمان كان يقول في الرواية بها : (( أنا )) .
وقد نهى عن ذلك الأوزاعي وأحمد بن صالح المصري .
ورخّص فيه آخرون ، منهم مالك ، ورواه الوليد بن مزيد عن الأوزاعي أيضاً ، وقد روي عن أحمد أيضاً .
قال صالح بن أحمد الحافظ سمعت القاسم بن أبي صالح يقول سمعت إبراهيم بن الحسين يقول سمعت أبا اليمان الحكم بن نافع يقول : (( قال لي أحمد بن حنبل : كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة ؟ قلت : قرأت عليه بعضه ، وبعضه قرأه عليّ ، وبعضه أجاز لي ، وبعضه مناولة . فقال : قل في كله : أنا شعيب )) .
ونقل البردعي عن أبي زرعة الرازي قال : (( لو يسمع أبو اليمان من شعيب بن أبي حمزة إلا حديثاً واحداً والباقي إجازة )) .
ومن أنواع المناولة :
أن يكتب العالم إلى رجل بشئ من حديثه ويختمه ، ويأذن له في روايته عنه .
وهي دون المناولة من يده ، وقد ري بها خلق كثير من جلة السلف والخلف . وقال أيوب ، وشبة ، ومنصور ، وغيرهم : (( إذا كتب إليك العالم فقد حدثك )) .
قال ابن وهب : (( كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد ، فيقول الليث : (( حدثني يحيى بن سعيد . وكان هشام يكتب إليه فيقول : حدثني هشام )) .
وهؤلاء منهم من طرد ذلك في باب الشهادة ، فأجاز الشهادة على الكتاب المختوم ونحوه ، وإن لم يعلم ما فيه . وحكى ذلك عن الزهري ، وهو قول أبي عبيد ، وأبي يوسف ، وخرجه طائفة من أصحابنا رواية عن أحمد .
ومنهم من فرق بين الرواية والشهادة ، فأجاز الرواية بالمناولة دون الشهادة على الخط المختوم ، وهو المشهور عن الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة ، وغيرهم من الفقهاء .
وفرق كثير منهم بأن الرواية مبناها على المسامحة ، فإنه لا يُشترط لها العدالة الباطنة ، ويُقبل فيها قول النساء والعبيد مطلقاً . ويقبل فيها العنعنة بخلاف الشهادة .
ومنهم من فرق بأن الشهادة قد يخفى تغيرها وزيادتها ونقصها ، بخلاف الحديث ، فإنه قد حُفظ وضُبط فلا يكاد يخفى تغيره . وقيل : إن في كلام أحمد إيماء إلى هذا الفرق .
وقد جوّز كثير من العلماء العمل بالوصية المختومة ، وإن لم يشهد عليها ، وهو نص أحمد ، وقول محمد بن نصر المروزي ، وغيره .
وكذلك جوّز كثير من فقهاء الحجاز عمل القاضي بكتاي القاضي ، إذا عرف أنه كتابه من غير شهادة على ما فيه .
وقد حكى المعافى بن زكريا ذلك على جمهور فقهاء الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة . وحكاه عن مالك ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وسمى عدداً كثيراً .
ولكن لا يلزم من جواز العمل بالخط المعروف جواز تحمل الشهادة بما لا يسمعه ، وإن جاز أن يشهد أنه خط فلان إذا عرفه .
ولعل مراد كثير ممن قال بقبول الكتاب المختوم المشهود عليه ، وإن لم يُقرأعلى الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان أو خطه ، فحينئذ يكون العمل بالخط .
وقد تقدم أن الأوزاعي فوق في المناولة بين العمل والرواية ، في رواية عنه ، فلا يلزم من جواز العمل بما عرف صحته جواز تحمله من غير تحمل له .
وأما الأثر الذي خرّجه الترمذي من ديث بشير بن نهيك عن أبي هريرة ، فقد رواه روح بن عبادة عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال : قال بشير بن نهيك : (( كنت أكتب بعض ما أسمع من أبي هريرة ، فلما أردت فراقة أتيت بالكتب فقرأتها عليه ، فقلت : هذا سمعته منك ؟ فقال : نعم )) .
ورواه عثمان بن الهيثم عن عمران بن بنحوه .
ورواه أبو عاصم عن عمران عن عمران بن حدير به ، وقال في حديثه : (( فلما أردت فراقة أتيته فقلت : هذا حديثك أحدث به عنط ؟ قال : نعم )) .
وهذا ليس من باب المناولة ولا من باب العرض المجرد ، بل رواية روح تدل على أنه عرض بعد سمعا ، وفي كلتا الروايتين أنه كان يكتب ما يسمع منه ، ثم أقرّ له به أبو هريرة ، وأذن له في روايته ، وهذا نهاية ما يكون من التثبيت في السماع ، مع أن البخاري قال في بشير : (( لا أرى له سماعاً من أبي هريرة )) ، نقله عنه الترمذي في العلل .
المسألة الرابعة
الرواية بالإجازة من غير مناولة
وقد ذكر الترمذي عن بعض أهل العلم إجازتها ، وقد حكاه غيره عن جمهور أهل العلم ، وحكاه بعضهم إجماعاً ، وليس كذلك . بل قد أنكر الإجازة جماعة من العلماء ، وحكي ذلك عن أبي زرعة ، وصالح بن محمد ، وإبراهيم الحربي .
وروى الربيع عن الشافعي أنه كره الإجازة . قال الحاكم : (( لقد كره المكروه عند أكثر أئمة هذا الشأن )) .
والذين أنكروا الإجازة المطلقة منهم من رخص في المناولة ، وهو قول أحمد بن صال المصري ، وروي أيضاً عن إبراهيم الحربي ، وأبي بكر البرقاني . وظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم في قصة رواية أبي اليمان عن شعيب يدل على مثل ذلك ، إلا أن يحمل إنكاره على أبي اليمان على إطلاقه لفظ الإخبار في الرواية بالإجازة ، لا على أصل الرواية بالإجازة .
وقد ذكرنا عنه رواية أخرى أنا أجاز لأبي اليمان إطلاق قول أنا فيما يرويه عن شعيب بالمناولة والإجازة .
وهو قول كثير من السلف والخلف .
وروي عن أحمد أنه أجاز أن يقول ثنا فيما يرويه بالإجازة .
وحكي أيضاً عن مالك ، والليث بن سعد ، والثوري ، وغيرهم .
* * *
*
فصل في الحديث المرسل *
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله :
(
والحديث إذا كان مرسلاً فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث ، وقد ضعفه غير واحد منهم :
أخبرنا علي بن حجر أنا بقية بن الوليد عن عتبة بن أبي حكيم قال : (( سمع الزهري إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة وهو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . فقال الزهري : قاتلك الله يا ابن أبي فروة ! تجيئنا بأحاديث ليس لها خُطم ولا أزمّة )) .
أخبرنا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال قال : يحيى بن سعيد : (( مرسلان مجاهد أحب إلىّ من مرسلات عطاء بن أبي رباح بكثير ، كان عطاء يخطب : يأخذ عن كل ضرب )) .
قال علي قال يحيى : (( مرسلات سعيد بن جبير أحب إلىّ من مرسلات عطاء .
قلت ليحيى : مرسلات مجاهد أحب إليك أم مرسلات طاوس ؟ قال : ما أقربهما )) .
قال علي وسمعت يحيى يقول : (( مرسلات أبي إسحاق عندي شبه لا شئ ، والأعمش ، والتيمي ، ويحيى بن أبي كثير ومرسلات ابن عيينة شبه الربح )) .
ثم قال : (( أي والله وسفياتن بن سعيد )) .
قلت ليحيى : (( فمرسلات مالك ؟ قال : هي أحب إلىّ ، ثم قال يحيى : ليس في القوم أحد أصح حديثاً من مالك )) .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال : سمعت سحيى بن سعيد القطان يقول : (( ما قال الحسن في حديثه : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إلا ووجدنا له أصلاً إلا حديثاً أو حديثين ))
قال أبو عيسى : ومن ضعّف المرسل فإنه ضعفه من قبل أن هؤلاء الأئمة قد حدثوا عن الثقات وغير الثقات ، فإذا روى أحدهم حديثاً وأرسله لعله أخذه من غير ثقة .
وقد تكلم الحسن البصري في معبد الجهني ، ثم روى عنه :
حدثنا بشر بن معاذ البصري ثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار قال : حدثني أبي وعمي قالا سمعنا الحسن يقول : (( إياكم ومعبداً الجهني ، فإنه ضال مضل )) .
قال أبو عيسى : ويروى عن الشعبي قال : (( ثنا الحارث الأعور وكان كذاباً )) وقد حدث عنه . وأكثر الفرائض التي يرويها عن علي وغيره هي عنه . وقد قال الشعبي : الحارث الأعور علمني الفرائض وكان من أفرض الناس .
سمعت محمد بن بشار يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( ألا تعجبون من سفيان بن عيينة ؟! لقد تركت الجابر الجعفي – بقوله لما روى عنه – أكثر من ألف حديث،ثم هو يحدث عنه))
قال محمد بن بشار : (( وترك عبد الرحمن بن مهدي حديث جابر الجعفي )) .
قال أبو عيسى : وقد احتج بعض أهل العلم بالمرسل أيضاً .
حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر الكوفي ، ثنا سعيد بن عامر عن شعبة عن سليمان الأعمش قال : (( قلت لإبراهيم النخعي أسند لي عن عبد الله بن مسعود . فقال إبراهيم : إذا حدثتك عن رجل عن عبد الله فهو الذي سميت ، وإذا قلت : قال عبد الله فهو عن غير واحد عن عبد الله )) ) .
* * *
الكلام ههنا في حكم الحديث المرسل
وقد ذكر الترمذي لأهل العلم فيه قولين :
أحدهما : أنه لا يصح ، ومراده أنه لا يكون حجة . وحكاه عن أكثر أهل الحديث .
وحكاه الحاكم عن جماعة أهل الحديث من فقهاء الحجاز ، وسمى منهم سعيد بن المسيب ، والزهري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، فمن بعدهم من فقهاء المدينة .
وفي حكايته عن أكثر من سماه نظر ، ولا يصح عن أحد منهم الطعن في المراسيل عموماً ، ولكن في بعضها .
وأسند الترمذي قول الزهري لإسحاق بن أبي فروة : (( قاتلك الله تجيئنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة )) . يريد لا أسانيد لها ، وهذا ذم لمن يرسل الحديث ولا يسنده .
وروى سلمة بن العيار عمن سمع الزهري يقول : ما هذه الأحاديث التي يأتون بها ليس لها خطم ولا أزمة )) ، يعني الأسانيد .
*
تفاوت درجات المراسيل وأسباب ذلك *
وذكر الترمذي أيضاً كلام يحيى بن سعيد القطان في أن بعض المرسلات أضعف من بعض ، ومضمون ما ذكره عنه تضعيف مرسلات عطاء ، وأبي إسحاق ، والأعمش ، والتيمي ، ويحيى بن أبي كثير ، والثوري ، وابن عيينة . وأن مرسلات مجاهد ، وطاووس ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، أحب إليه منها .
وقد أشار إلى علة ذلك بأن عطاء كان يأخذ عن كل ضرب ، يعني أنه كان يأخذ عن الضعفاء ، ولا ينتقي الرجال ، وهذه العلة مطردة في أبي إسحاق ، والأعمش ، والتيمي ، ويجيى بن أبي كثير ، والثوري ، وابن عيينة ، فإنه عرف منهم الرواية عن الضعفاء أيضاً .
وأما مجاهد ، وطاووس ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، فأكثر تحرياً في رواياتهم ، وانتقاداً لمن يروون عنه ، مع أن يحيى بن سعيد صرّح بأن الكل ضعيف .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل ثنا علي ابن المديني قال : قلت ليحيى : (( سعيد بن المسيب عن أبي بكر ؟ )) ، قال : (( ذلك شبه الريح )) .
قال وسمعت يحيى يقول : (( مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلىّ من سفيان عن إبراهيم . قال يحيى : وكل ضعيف )) .
قال وسمعت يحيى يقول : (( سفيان عن إبراهيم شبه لا شئ ، لأنه لو كان فيه إسناد صاح به )) .
قال : وقال يحيى : (( أما مجاهد عن علي فليس بها بأس ، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي )) .,
وأما عطاء يعني علي فأخاف أن يكون من كتاب )) .
قال وسمعت يحيى يقول :(( مرسلات بن أبي خالد ليس بشئ ،ومرسلات عمرو بن دينار أحب إلىّ))
قال وسمعت يحيى يقول : (( مرسلات معاوية بن قرة أحب إلىّ من مرسلات زيد بن أسلم )) .
وذكر يحيى عن شعبة أنه كان يقول : (( عطاء عن علي إنما هي من كتاب ، ومرسلات معاوية بن قرة نرى أنه عن شهر بن حوشب .
قال ابن أبي حاتم ونا أحمد بن سنان الواسطي قال : (( كان يحيى بن سعيد لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً ، ويقول : هو بمنزلة الريح ويقول : هؤلاء قوم حفاظ كانوا إذا سمعوا الشئ علقوه )) .
وكلام يحيى بن سعيد في تفاوت مراتب المرسلات بعضها على بعض يدور على أربعة أسباب :
أحدها : ما سبق من أن من عرف روايته عن الضعفاء ضعف مرسله بخلاف غيره .
والثاني : أن من عرف له إسناد صحيح إلى من أرسل عنه فإرساله خير ممن لم يعرف له ذلك . وهذا معنى قوله : (( مجاهد عن علي ليس به بأس ، قد أسند عن ابن أبي ليلى عن علي )) .
والثالث : أن من قوي حفظه يحفظ كل ما يسمعه ، ويثبت في قلبه ، ويكون فيه ما لا يجوز الاعتماد عليه ، بخلاف من لم يكن له قوة الحفظ ، ولهذا كان سفيان إذا مر بأحد يتغنى بسد أذنيه ، حتى لا يدخل إلى قلبه ما يسمعه منه فيقر فيه .
وقد أنكر مرة يحيى بن معين على علي بن عاصم حديثاً وقال : (( ليس هو من حديثك إنما ذوكرت به ، فوقع في قلبك ، فظننت أنك سمعته ولم تسمعه وليس هو من حديثك )) .
وقال الحسين بن حريث سمعت وكيعاً يقول : (( لا ينظر رجل في كتاب لم يسمعه ، لا يأمن أن يعلق قلبه منه )) .
وقال الحسين بن الحسن المروزي سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : (( كنت عند أبي عوانة فحدث بحديث عن الأعمش ، فقلت : ليس هذا من حديثك . قال : بلى . قلت : لا . قال : بلى . قلت : لا . قال : يا سلامة هات الدرج ، فأخرجت فنظر فيه فإذا ليس الحديث فيه . فقال : صدقت يا أبا سعيد ، فمن أين أتيت ؟ قلت : ذوكرت به وأنت شاب ، فظننت أنك سمعته )) .
الرابع : أن الحافظ إذا روى عن قة لا يكاد يترك اسمه ، بل يسميه ، فإذا ترك اسم الراوي دل إبهامه على أنه غير مرضي ، وقد كان يفعل ذلك الثوري وغيره كثيراً ، يكنون عن الضعيف ولا يسمونه ، بل يقولون : عن رجل )) . وهذا معن قول القطان : (( لو كان فيه إسناد لصاح به )) . يعني لو كان أخذه عن ثقة لسماه وأعلن باسمه .
وخرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي ، قال سمعت يحيى ابن سعيد يقول : (( مرسل الزهري شر من مرسل غيره ، لأنه حافظ ، وكلما يقدر أن يسمي سمى ، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه)) .
وقال يحيى بن معين : (( مراسيل الزهري ليست بشء )) .
وقال الشافعي : (( إرسال الزهري عندنا ليس بش ، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم )) .
وقد روي أيضاً تضعيف مراسيل الزهري عن يحيى بن سعيد ، وأن أحمد بن صالح المصري أنكر عليه ذلك ، لكن من وجه لا يثبت .
وأما مراسيل الحسن البصري رضي الله عنه :
ففي كلام الترمذي ما يقتضي تضعيفها مع مراسيل الشعبي ، فإنه ذكر أن الحسن ضعف معبداً ثم روى عنه ، وأن الشعبي كذب جابراً الجعفي ثم روى عنه . فتضعف مراسيلهما حينئذ .
وما ذكره عن يحيى القطان أن مراسيل الحسن وجد لها أصلاً إلا حديثاً أو حديثين يدل على أن مراسيله جيده .
وقال ابن عدي سمعت الحسن بن عثمان يقول : سمعت أبا زرعة الرازي يقول : (( كل شئ قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجدت له أصلاً ثابتاً ،ما خلا أربعة أحاديث)) .
وخرج عبد الغني بن سعيد من طريق نصر بن مرزوق وسلمة ابن مكتل ، قالا : سمعنا الخصيب بن ناصح يقول : (( كان الحسن إذا حدثه رجل واحد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحديث ذكره ، فإذا حدثه أربعة بحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ألقاهم ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
سلمة بن مكتل مصري ذكره ابن يونس .
والخصيب بن ناصح مصري أيضاً متأخر ، لم يدرك الحسن ، إنما يروي عن خالد بن خداش ونحوه ، ويروي عنه [ أيضاً ] عبد الرحمن ابن عبد الله بن عبد الحكم .
وقال محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي سمعت علي بن المديني يقول : (( مرسلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها )) .
وقال ابن عبد البر : روى عباد بن منصور سمعت الحسن قال : (( ما حدثني به رجلان قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
وروى محمد بن موسى الحرشي عن ثمامة بن عبيدة ثنا عطية بن محارب عن يونس قال : سألت الحسن ، قلت : (( يا أبا سعيد إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم تدركه ؟ )) . قال : (( كل شئ سمعتني أقوله : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهو عن علي بن أبي طالب ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر علياً )) . وكان في عمل الحجاج .
وهذا إسناد ضعيف ، ولم يثبت للحسن سماع من علي .
وذكر البخاري في تاريخه قال : قال الهيثم بن عبيد الصيد حدثني أبي قال قال رجل للحسن : (( إنك لتحدثنا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلو كنت تسند لنا ! )) . قال : (( والله ما كذبناك ولا كذبنا ، لقد غزوت إلى خراسان غزوة معنا فيها ثلاثمائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) .
وهذا يدل على أن مراسيل الحسن أو أكثرها عن الصحابة . وضعّف آخرون مراسيل الحسن .
روى حماد عن ابن عون عن ابن سيرين قال : (( كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم : وذكر الحسن ، وأبا العالية ، ورجلاً آخر )) .
وروى جرير عن رجل عن عاصم الأحول عن ابن سيرين قال : (( لا تحدثني عن الحسن ، ولا عن أبي العالية ، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث )) .
وروى داود بن أبي هند عن الشعبي قال : (( لو لقيت هذا – يعني الحسن – لنهيته عن قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، صحبت ابن عمر ستة أشهر ، فما سمعته قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا في حديث واحد )) .
وروى شعبة عن عبد الله بن صبيح عن محمد بن سيرين قال : (( ثلاثة كانوا يصدقون من حدثهم : أنس ، وأبو العالية ، والحسن البصري )) .
قال الخطيب : (( أراد أنس بن سيرين )) . وفيه نظر .
وقال الإمام أحمد ثنا أبو أسامة عن وهيب بن خالد عن خالد الخذاء قال سمعت محمد بن سيرين يقول : كان أربعة يصدقون من حدثهم : أبو العالية ، والحسن ، وحميد بن هلال ، ورجل آخر سماه )) .
وقد كان ابن سيرين يقول : (( سلوا الحسن ممن سمع حديث العقيقة ، وسلوا الحسن ممن سمع حديث : (( عمار تقتله الفئة الباغية )) .
وقال أحمد في رواية الفضل بن زياد : (( مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مراسيل الحسن وعطاء بن أبي رباح ، فإنهما يخذان عن كل )) .
وقال أحمد في رواية الميموني وحنبل عنه : (( مرسلات سعيد ابن المسيب صحاح لا نرى أصح من مرسلاته . زاد الميموني : وأما الحسن وعطاء فليس هي بذاك . هي أضعف المراسيل كلها . فإنهما كانا يأخذان عن كل )) .
وقال ابن سعد : (( قالوا : ما أرسل الحسن ولم يسند فليس بحجة )) .
وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله : (( ابن جريج كان لا يبالي من أين يأخذ ، وبعض أحاديثه التي يرسلها يقول : (( أُخبرت عن فلان )) موضوعة )) .
وممن تكلم من السلف في المراسيل ابن سيرين ، وقد تقدم قوله : (( كانوا لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة )) .
وقوله لما حدث عن أبي قلابة : (( أبو قلابة رجل صالح ، ولكن عمن أخذه أبو قلابة )) .
وكذلك تقدم قول ابن المبارك لما روي له حديث عن الحجاج بن دينار عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مفوز تنقطع فيها أعناق الإبل )) .
وقد سبق كلام شعبة ويحيى القطان .
وذلك ذكر أصحاب الشافعي أن مذهبه أن المراسيل ليست حجة .
واستثنى بعضهم مراسيل ابن المسيب . وقال : (( هي حجة عنده )) .
قال أبو الطيب الطبري : (( وعلى ذلك يدل كلام الشافعي )) .
ومن أصحابه من قال : (( إنما تصلح للترجيح لا غير )) .
وقال يونس بن عبد الأعلى : قال لي الشافعي : (( ليس المنقطع بشئ ، ما عدا منقطع ابن المسيب )) . خرجه ابن أبي حاتم في أول كتاب المراسيل عن أبيه عن يونس ، وناوله على أن مراده أنه يعتبر بمرسل سعيد بن المسيب .
وخرجه عبد الغني بن سعيد من طريق محمد بن سفيان بن سعيد المؤذن عن يونس به .
قال ابن أبي حاتم : وسمعت أبي وأبا زرعة يقولان : (( لا يحتج إلا بالمراسيل ، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح )) .
وكذلك قال الدار قطني : (( المرسل لا تقوم به حجة )) .
وخرّج مسلم في مقدمة كتابه من طريق بن سعد عن مجاهد قال : (( جاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه . فقال : يا ابن عباس مالي أراك لا تسمع لحديثي ، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا تسمع ! فقال ابن عباس : (( إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف )) .
ثم قال مسلم في أثناء كلامه : (( المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة )) .
القول الثاني في المسألة : الاحتجاج بالمرسل :
وحكاه الترمذي عن بعض أهل العلم ، وذكر كلام إبراهيم النخعي : (( أنه كان إذا أرسل فقد حدثه به غير واحد . وإن أسند لم يكن عنده إلا عمن سماه )) .
وهذا يقتضي ترجيح المرسل على المسند ، لكن عن النخعي خاصة فيما أرسله عن ابن مسعود خاصة
وقد قال أحمد في مراسيل النخعي : (( لا بأس بها )) .
وقال ابن معين : (( مرسلات المسيب أحب إلىّ من مرسلات الحسن ، ومرسلات إبراهيم صحيحه إلا حديث تاجر البحرين ، وحديث الضحك في الصلاة )) .
وقال أيضاً : (( إبراهيم أعجب إلىّ مرسلات من سالم والقاسم وسعيد بن المسب )) .
قال البيهقي : والنخعي نجده يروي عن قوم مجهولين لا يروي عنهم غيره . مثل هني بن نويرة ، وحزامة الطائي ، وقرثع الضبي ، ويزيد بن أوس ، وغيرهم )) .
وقال العجلي : (( مرسل الشعبي صحيح لا يكاد يرسل إلا صحيحاً )) .
وقال الحسن بن شجاع البلخي سمعت علي بن المديني يقول : (( مرسل الشعبي وسعيد بن المسيب أحب إلىّ من داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس )) .
وقد استدل كثير من الفقهاء بالمرسل وهو الذي ذكره أصحابنا أنه الصحيح عن الإمام أحمد .
وهو قول أبي حنيفة ، وأًحابه ، وأًحاب مالك أيضاً . هكذا أطلقوه ، وفي ذلك نظر سننبه عليه إن شاء الله تعالى .
وحكى احتجاج بالمرسل عن أهل الكوفة ، وعن أهل العراق جملة .
وحكاه الحاكم عن إبراهيم المخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبي حنيفة ، وصاحبيه .
وقال أبو داود السجستاني في رسالته إلى أهل مكة : (( وأما المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى ، مثل سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكام فيه ، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره )) .
قال أبو داود : (( فإن لم يكن مسند ضد المراسيل ، ولم يوجد مسند فالمراسيل يحتج بها ، وليس هو مثل المتصل في القوة )) . انتهى .
واعلم أنه لا تنافي بين كلام الحفاظ
وكلام الفقهاء في هذا الباب
فإن الحفاظ إنما يريدون صحة الحديث المعين إذا كان مرسلاً ، وهو ليس بصحيح على طريقهم ، لانقطاعه وعدم اتصال إسناده إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأما الفقهاء فمرادهم صحة ذلك المعنى الذي دل عليه الحديث .
فإذا اعضد ذلك المرسل قرائن تدل على أن له أصلاً قوي الظن بصحة ما دل عليه ، فاحتج به مع ما اختلف به من القرائن .
وهذا هو التحقيق في الاحتجاج بالمرسل عند الأئمة
كالشافعي وأحمد ، وغيرهما ، مع أن في كلام الشافعي ما يقتضي صحة المرسل حينئذ .
وقد سبق قول أحمد : (( مرسلات ابن المسيب صحاح )) .
ووقع مثله في كلام ابن المديني ، وغيره .
قال ابن المديني – في حديث يرويه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه - : (( هو منقطع ، وهو حديث ثبت )) .
قال يعقوب بن شيبة : (( إنما استجاز أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند – يعني في الحديث المتصل ـ لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها ، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر )) .
وقد ذكر ابن جرير وغيره : (( أن إطلاق القول بأن المرسل ليس بحجة ، من غير تفصيل بدعة حدثت بعد المائتين )) .
*
تحقيق مذهب الشافعي وأحمد في المرسل *
ونحن نذكر كلام الشافعي وأحمد في ذلك بحروفه :
قال الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة : (( والمنقطع مختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التابعين فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اعتبر عليه بأمور ، منها :
أن ينظر إلى ما أرسل من الحديث فإن شركه الحفاظ المأمونون ، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه .
وإن انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم من غير رجاله الذي قبل عنهم ، فإن وجد ذلك كانت دلالة تقوي له مرسله ، وهي أضعف من الأولى .
وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً له ، فإن وجد يوافق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، كانت في هذا دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل إن شاء الله .
وكذلك إن وجد عوام أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ثم يعتبر عليه بأن يون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولاً ، ولا مرغوباً عن الرواية عنه ، فيستدل بذلك على صحته فيما روى عنه . ويكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه ، فإن خالفه وجد حديثه أنقص ، كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه .
ومتى خالف ما وسفت أصرّ بحديثه حتى لا يسمع أحداً قبول مرسله )) .
قال : (( وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل .
وذلك أن معنى المنقطع مغيب ، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب عن الرواية عنه إذا سمي ، وأن بعض المنقطعات وإن وافقه مرسل مثله ، فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحداً من حيث لو سمي لم يقبل .
وأن قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قال برأيه , لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين يسمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوافقه ، ويحتمل مثل هذا فيمن يوافقه بعض الفقهاء ))
قال : (( فأما من بعد كبار التابعين ، فلا أعلم منهم أحداً يقبل مرسله ، لأمور .
أحدها : أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه .
والآخر : أنهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف للوهم ، وضعف من يقبل عنه )) .
انتهى كلامه . وهو كلام حسن جداً ، ومضمونه أن الحديث المرسل يكون صحيحاً ، ويقبل بشروط : منها في نفس المرسل وهي ثلاثة :
أحدها : أن لا يعرف له رواية عن غير مقبول الرواية ؛ من مجهول أو مجروح .
وثانيها : أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسنده ، فإن كان ممن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يقبل مرسله .
وثالثها : أن يكون من كبار التابعين ، فإنهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي أو تابعي كبير ، وأما غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم فيتوسعون في الرواية عمن لا تقبل روايته .
وأيضاً فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة ، وأنا من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة ، وهي الباطلة الموضوعة ، وكثر الكذب حينئذ .
فهذه شرائط من يقبل إرساله .
وأما الخبر الذي يرسله ، فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته وأن له أصلاً ، والعاضد له أشياء :
أحدها ؛ وهو أقواها : أن يسنده الحفاظ المامونون من وجه أخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعنى ذلك المرسل ، فيكون دليلاً على صحة المرسل ، وأن الذي أ{سل عنه كان ثقة ، وهاذ هو ظاهر كلام الشافعي .
وحينئذ فلا يرد على ذلك ، ما ذكره المتأخرون أن العمل حينئذ إنما يكون بالمسند دون المرسل .
وأجاب بعضهم بأنه قد يسنده من لا يقبل بانفراده فينضم إلى المرسل فيصح فيحتج بها حينئذ .
وهذا ليس بشئ ، فإن الشافعي اعتبر أن يسنده الحفاظ المأمونون . وكلامه إنما هو في صحة المرسل وقبوله ، لا في الاحتجاج للحكمالذي دل عليه المرسل ، وبينهما بون .
وبعد أن كتبت هذا وجدت أبا عمرو بن الصلاح ، قد سبق إليه وفي كلام أحمد إيماء إليه ، فإنه ذكر حديثاً رواه خالد عن أبي قلابة عن ابن عباس ، فقيل له : سمع أبو قلابة من ابن عباس أو رآه ؟ قال ؟ لا ، ولكن الحديث صحيح عنه ، يعني عن ابن عباس . وأشار إلى أنه روي عن ابن عباس من وجوه آخر .
[
ثم وجدت في كلام أبي العباس بن سريج – في رده عل أبي بكر بن داود ما عاترض به على الشافعي – أن مراد الشافعي أن المرسل للحديث يعتبر أن توجد مراسيله توافق ما أسنده الحفاظ المأمونون ، فيستدل بذلك على أن لمراسيله أصلاً ، فإذا وجدنا له مرسلاً بعد ذلك قبل ، وإن لم يسنده الحفاظ ، وكأنه يعتبر أن يوجد الغالب على مراسيله ذلك ، إذ لو كان معتبراً في جميعها لم يقبل له مرسل حتى يسنده الثقات ، فيعود الإشكال .
وهذا الذي قاله ابن سريج مخالف لما فهم الناس من كلام الشافعي ، مع مخالفته لظاهر كلامه . والله أعلم ] .
والثاني : أن يوجد مرسل آخر موافق له ، عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسل الأول فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه ، وأن له أصلاً ، بخلاف ما إذا كان المرسل الثاني لا يروي إلا عمن يروي عنه الأول ، فإن الظاهر أن مخرجهما واحد لا تعدد فيه . وهذا الثانيأضعف من الأول .
والثالث : أن لا يجد شئ مرفوع يوافق ، لا مسند ولا مرسل ، لكن يوجد ما يوافق من كلام بعض الصحابة ، فيستدل به على أن للمرسل أصلاً صحيحاً أيضاً . لأن الظاهر أن الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والرابع : أن لا يجد للمرسل ما يوافقه لا مسند ولا مرسل ولا قول صحابي ، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به ، فإنه يدل على أن له أصلاً ، وأنهم مسندون في قولهم إلى ذلك الأصل .
فإذا وجدت هذه الشرائط دلت على صحة المرسل وأنه له أصلاً ، وقبل واحتج به .
ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة ، فإن المرسل وإن اجتمعت فيه هذه الشرائد فإنه يحتمل أن يكون في الأصل مأخوذاً عن غير من يحتج به .
ولو عضده حديث متصل صحيح ، لأنه يحتمل أن لا يكون أصل المرسل صحيحاً .
وإن عضده مرسل فيحتمل أن يكون أصلهما واحداً وأن يكون كتلقى عن غير مقبول الرواية .
وإن عضده قول صحابي فيحتمل أن الصحابي قال برأيه من غير سماع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فلا يكون في ذلك ما يقوي المرسل ، ويحتمل أن المرسل لما سمع قول الصحابي ظنه مرفوعاً فغلط ورفعه ، ثم أرسله ولم يسم الصحابي . فما أكثر ما يغلط في رفع الموقوفات .
وإن عضده موافقة قول عامة الفقهاء فهو كما لو عضده قول الصحابي وأضعف ، فإنه يحتمل أن يكون مستند الفقهاء اجتهاداً منهم ، وأن يكون المرسل غلط ورفع كلام الفقهاء ، لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً .
وقال الشافعي أيضاً في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولا تقبلوه عن غيره ؟ . أنه ر
قال : (( لا نحفظ لابن المسيب منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديد ، ولا أثر عن أحد عرفنا عنه ، إلا عن ثقة معروف ، فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه )) .
وهذا موافق لما ذكره في الرسالة ، فإن ابن المسيب من كبار التابعين ، ولم يعرف له رواية عن غير ثقة ، وقد اقترن بمراسيله كلها ما يعضدها .
وقد قرر كلام الشافعي هذا البيهقي في مواضع من تصانيفه كالسنن ، والمدخل ، ورسالته إلى أبي محمد الجوبني ، وأنكر فيها على الجوبني قوله : (( لا تقوم الحجة بسوى مرسل ابن المسيب )) وأنكر صحة ذلك عن الشافعي ، وكأنه لم يطلع على رواية الربيع عنه التي قدمنا ذكرها .
قال البيهقي : (( وليس الحسن وابن سيرين بدون كثير من التابعين ، وإن كان بعضهم أقوى مرسلاً منهما ، أو من أحدهما ، وقد قال الشافعي بمرسل الحسن حين اقترن به ما يعضده في مواضع ، منها : النكاح بلا ولي ، وفي النهي عن بيع الطعام حتي يجري فيه الصاعان ، وقال بمرسل طاوس ، وعروة ، وأبي أمامة بن سهل ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطاء بن يسار ، وابن سيرين ، وغيرهم من كبار التابعين حين اقترن به ما أكده ، ولم يجد ما هو أقوى منه ، كما قال بمرسل ابن المسيب في النهي عن بيع اللحم بالحيوان ، وأكده بقول الصديق ، وبأنه روي من وجه آخر مرسلاً ، وقال : (( مرسل ابن المسيب عندنا حسن )) .
ولم يقل بمرسل ابن المسيب في زكاة الفطر بمدين من حنطة . ولا بمرسلة في التولية قبل أن يستوفي . ولا بمرسلة في دية المعاهد .
ولا بمرسلة (( من ضرب إباه فاقتلوه )) ، لما لم يقترن بها من الأسباب ما يؤكدها ، أو لما وجد من المعارض لها ما هو أقوى منه )) انتهى ما كذره البيهقي .
وأما مرسل أبي العالية الرياحي في الوضوء من القهقهة في الصلاة فقد رده الشافعي وأحمد ، وقال الشافعي : (( حديث أبي العالية الرياحي رياح )) ، يشير إلى هذا المرسل . وأحمد رده بأنه مرسل ، مع أنه يحتج بالمراسيل كثيراً ، وإنما رداً هذا المرسل لأن أبا العالية وإن كان من كبار التابعين فقد ذكر ابن سيرين أنه كان يصدق كل من حدثه ، ولم يعضد مرسله هذا شئ مما يعتضد به المرسل ، فإنه لم يرو من وجه متصل صحيح بل ضعيف ، ولم يرو من وجه آخر مرسل ، إلا من وجوه ترجع كلها إلى أبي العالية .
وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي من تقسيم المراسيل إلى محتج به وغير محتج به يؤخذ من كلام غيره من العلماء ، كما تقدم عن أحمد وغيره تقسيم المراسيل إلى صحيح وضعيف .
ولم يصحح أحمد المرسل مطلقاً ، ولا ضعفه مطلقاً ، وإنما ضعف مرسل من يأخذ عن غير ثقة ، كما قال في مراسيل الحسن وعطاء : (( هي أضعف المراسيل ، لأنهما كانا يأخذان عن كل )) .
وقال أيضاً : (( لا يعجبني مراسيل يحيى بن أبي كثير ، لأنه يروي عن رجال ضعاف صغار )) .
وكذا قوله في مراسيل ابن جريج وقال : (( بعضها موضوعة )) .
وقال مهنا قلت لأحمد:((لم كرهت مرسلات الأعمش .قال:كان الأعمش لا يبالي عمن حديث )) .
وهذا يدل على أنه إنما يضعف مراسيل من عرف بالرواية عن الضعفاء خاصة .
وكان أحمد يقوي مراسيل من أدرك الصحابة وأرسل عنهم ، ، قال أبو طالب قلت لأحمد : (( سعيد بن المسيب عن عمر حجة ؟ . قال : هو عندنا حجة ، قد رأى عمر وسمع منه ، وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل ؟ ! )) . ومراده أنه مسع منه شيئاً يسيراً ، لم يرد أنه سمع منه كل ما روى عنه ، فإنه كثير الرواية عنه ، ولم يسمع ذلك كله منه قطعاً .
ونقل مهنا عن أحمد أنه ذكر حديث إبراهيم بن محمد بن طلحة قال قال عمر : (( لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء )) قال فقلت له : (( هذا مرسل عن عمر ؟ قال : نعم ، ولكن إبراهيم بن محمد بن طلحة كبير )) .
وقال في حديث عكرمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من لم يسجد على أنفه مع جبهته فلا صلاة له )) : (( هو مرسل أخشى أن يكون ثبتاً )) .
وقال في حديث عراك عن عائشة حديث : (( حولوا مقعدتي إلى القبلة )) : (( هو أحسن ما روي في الرخصة وإن كام مرسلاً ، فإن مخرجه حسن )) .
ويعني بإرساله أن عراكاً لم يسمع من عائشة .
وقال : (( إنما يروى عن عروة عن عائشة )) ، فلعله حسنه لأن عراكاً قد عرف أنه يروي حديث عائشة عن عروة عنها .
وظاهر كلام أحمد أن المرسل عنده من نوع الضعيف ، لكنه يأخذ بالحديث إذا كان فيه ضعف ، ما لم يجبيئ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عن أصحابه خلافه .
قال الأثرم : (( كان أبو عبد الله ربما كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي إسناده شئ فيأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه ، مثل : حديث عمرو بن شعيب ، وإبراهيم الهجري ، وربما أخذ الحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه .
وقال أحمد – في رواية مهنا في حديث معمر عن سالم عن ابن عمر (( أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة )) – قال أحمد : (( ليس بصحيح ،والعمل عليه ، كان عبد الرزاق يقول : عن معمر عن الزهري ، مرسلاً )) .
وظاهر هذا أنه يعمل به مع أنه مرسل وليس بصحيح ، ويحتمل أنه أراد ليس بصحيح وصله .
وقد نص أحمد على تقديم قول الصحابي على الحديث المرسل . وهكذا كلام ابن المبارك ، فإنه قد تقدم عنه أنه ضعف مرسل حجاج بن دينار ، وقد احتمل مرسل غيره ، فروى الحاكم عن الأصم ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : وجدت في كتاب أبي نا الحسن بن عيسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقال : (( حسن )) . فقلت لابن المبارك : (( إنه ليس فيه إسناد ؟ )) فقال : (( إن عاصماً يحتمل له أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) . قال فغدوت إلى أبي بكر فإذا ابن المبارك قد سبقني إليه وهو إلى جنبه فظننته قد سأله عنه )) . فإذا احتمل مرسل عاصم بن بهدلة فمرسل من هو أعلى منه من التابعين أولى .
وأما مراسيل ابن المسيب فهي أصح المراسيل كما قاله أحمد وغيره ، وكذا قال ابن معين : (( أصح المراسيل مراسيل سعيد بن المسيب )) .
قال الحاكم : (( قد تأمل الأئمة المتقدمون مراسيله فوجدوها بأسانيد صحيحه )) . قال : (( وهذه الشرائط لم توجد في مراسيل غيره )) ، كذا قال . وهذا وجه ما نص عليه الشافعي في رواية يونس بن عبد الأعلى كما سبق .
وقد أنكر الخطيب وغيره ذلك . وقالوا : (( لابن المسيب مراسيل لا توجد مسنده )) .
وقد ذكر أصحاب مالك : أن المرسل يقبل إذا كان مرسله ممن لا يروي إلا عن الثقات .
وقد ذكر ابن عبد البر ما يقتضي أن ذلك إجماع ، فإنه قال : (( كل من عرف بالأخذ عن الضعفاء والمسامحة في ذلك لم يحتج بما أرسله كان أو من دونه ، وكل من عرف أنه لا يأخذ إى عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول ، فمراسيل سعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي عندهم صحاح .
وقالوا : مراسيل الحسن وعطاء لا يحتج بها ، لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد ، وكذلك مراسيل أبي قلابة وأبي العالية .
وقالوا : لا يقبل تدليس الأعمش ، لأنه إذا وقف أحال على غير ملئ ، يعنون على غير ثقة ، إذا سألته عمن هذا ؟ قا ل: عن موسى ابن طريف ، وعباية بن ربعي ، والحسن بن ذكوان .
قالوا : ويقبل تدليس ابن عيينة ، لأنه إذا وقف أحال على ابن جريج ، ومعمر ، ونظرائهما .
ثم ذكر بعد ذلك كلام إبراهيم النخعي الذي خرجه الترمذي ههنا ، ثم قال : (( إلى هذا نزع من أصحابنا من زعم أن مرسل الإمام أولى من مسنده ، لأن في هذا الخبر ما يدل على أن مراسيل النخعي أقوى من مسانيده ، وهو لعمري كذلك ، إلا أن إبراهيم ليس بمعيار على غيره )) انتهى .
وقول من قبل مراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة يدل على أن مذهبه أن الراوي إذا قال حدثني الثقة أنه يقبل حديثه ويحتج به ، وإن لم يسم عين ذلك الرجل ، وهو خلاف ما ذكره المت ألمتأخرون من المحدثين كالخطيب وغيره وذكره أيضاً طائفة من أهل الأصول كأبي بكر الصيرفي وغيره ، وقالوا قد يوثق الرجل من يجرحه غيره ، فلا بد من تسميته لنعرف هل هو ثقة أم لا .
أما لو علم أنه لا يرسل إلا عن صحابي كان حديثه حجة ، لأن الصحابة كلهم عدول ، فلا يضر عدم المعرفة بعين من روي عنه منهم ، وكذلك لو قال تابعي : أخبرني بعض الصحابة ، لكان حديثه متصلاً يحتج به ، كما نص عليه أحمد ، وكذا ذكره ابن عمار الموصلي ، ومن الأصوليين أبو بكر الصيرفي وغيره . وقال البيهقي : (( هو مرسل .
*
فصل في أقسام الرواة من حيث الاختلاف فيهم *
وتراجم كل قسم
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
وقد اختلفوا الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال ، كما اختلفوا في سوى ذلك من العلم .
ذكر عن شعبة أنه ضعّف أبا الزبير المكي ، وعبد الملك ابن أبي سليمان ، وحكيم بن جبير ، وترك الرواية عنهم ، ثم حدث شعبة عمن دون هؤلاء في الحفظ والعدالة : حدث عن جابر الجعفي ، وإبراهيم بن مسلم الهجري ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، وغير واحد ممن يضعفون في الحديث .
حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان البصري نا أمية بن خالد قال قلت لشعبة : (( تدع عبد الملك بن أبي سليمان وتحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي ؟ قال : نعم )) .
قال أبو عيسى : وقد كان شعبة حدث عن عبد الملك بن أبي سليمان ، ثم تركه . ويقال : إنما تركه لما تفرد بالحديث الذي روى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الرجل أحق بشفعته ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحد )) .
وقد ثبت غير واحد من الأئمة وحدثوا عن أبي الزبير ، وعبد الملك بن أبي سليمان ، وحكيم بن جبير
حدثنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا حجاج وابن أبي ليلى عن عطاء ابن أبي رباح قال : كنا إذا خرجنا من عند جابر بن عبد الله تذاكرنا حديثه ، وكان أبو الزبير أحفظنا للحديث )) .
حدثنا محمد بن أبي عمر المكي ثنا صفيان بن عيينة قال قال أبو الزبير : (( كان عطاء يقدمني إلى جابر بن عبد الله فأحفظ لهم الحديث )) .
حدثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان قال سمعت أيوب السختياني يقول : (( حدثني أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير )) . قال سفيان بيده فقبضها )) .
قال أبو عيسى : إنما يعني به الاتقان والحفظ .
ويروى عن عبد الله بن المبارك أنه قال كان سفيان يقول : (( كان عبد الملك بن أبي سليمان ميزاناً في العلم )) .
حدثنا أبو بكر عن علي بن عبد الله قال سألت يحيى بن سعيد عن حكيم بن جبير فقال : (( تركه شعبة من أجل الحديث الذي روى في الصدقة ، يعني حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من سأل الناس وله ما يغنيه كان يوم القيامة خموشاَ في وجهه .
قالوا : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب )) .
قال علي قال يحيى : (( وقد حدث عن حكيم بن جبير سفيان الثوري ، وزائدة )) . قال علي : (( ولم ير يحيى بحديثه بأساً )) .
أخبرنا محمود بن غيلان ثنا يحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن حكيم بن جبير بحديث الصدقة . قال يحيى بن آدم فقال عبد الله ابن عثمان صاحب شعبة لسفيان الثوري:(( لو غير حكيم حدث بهذا )) .
فقال له سفيان : (( وما لحكيم ؟ لا يحدث عنه شعبة ؟ )) قال : نعم .
فقال سفيان الثوري : (( سمعت زبيداً يحدث بهذا عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ) .
قد تقدم أن
رواة الحديث أربعة أقسام
من هو متهم بالكذب .
ومن هو صادق لكن يغلب على حديثه الغلط والوهم لسوء حفظه . وهذا القسمان متروكان .
ومن هو صادق ويغلط أحياناً . وهذا القسم هو المحتج بحديثه .
ومن هو صادق ويخطئ كثير ويهم ، لكن لا يغلب الخطأ عليه ، وهؤلاء مختلف في الرواية عنهم والاحتجاج بهم . وسبق الكلام على ذلك كله مستوفي .
وبقي الكلام في أن بعض الرواة
يختلف الحفاظ فيه من أي هذه الأقسام هو ؟
فمنهم من يختلف فيه هل هو متهم بالكذب أم لا .
ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن غلب على حديثه الغلط أم لا .
ومنهم من يختلف فيه هل هو ممن كثر غلطه وفحش ، أم ممن قل خطؤه وندر .
وقد ذكر الترمذي هنا بعض من اختلف في ترك حديثه وفي الرواية عنه . ونحن نذكر أمثلة هذه الأقسام الثلاثة التي ذكرناها إن شاء الله تعالى :
فمثال القسم الأول :
وهو من اختلف فيه هل هو متهم بالكذب أم لا :
عكرمة مولى ابن عباس :
اتهمه بالكذب جماعة ، منهم : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعطاء ، وعلي بن عبد الله ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وغيرهم .
وأنكر ذلك جماعة آخرون ، قال أيوب : (( لم يكن بكذاب ولم أكن اتهمه )) . ووثقه ابن أبي ذئب . وقال بكر المزني : (( أشهد أنه صدوق )) . ووثقه أيضاً من الحفاظ يحيى بن معين وغيره ، وخرج له البخاري في صحيحه .
وقال ابن عدي : (( إذا روى عنه الثقات فهو مستقيم الحديث ، ولم يمتنع الأئمة من الرواية عنه )) .
وقال أحمد في رواية عنه : (( عمرو بن أبي عمرو كل شئ يرويه عن عكرمة مضطرب وكذا كل من يروي عن عكرمة سماك وغيره )) . قيل له : (( فترى هذا من عكرمة أو منهم ؟ قال : (( ما أحسبه إلا من قبل عكرمة )) .
وقال أحمد بن القاسم : (( رأيت أحمد ضعف رواية عكرمة ولم ير روايته حجة )) .
قال أبو بكر الخلال : (( هذا في حديث خاص . قال : وعكرمة عند أبي عبد الله ثقة يحتج بحديثه )).
كذا قال ؛ والظاهر هو خلافه ، وقد يكون عن أحمد فيه روايتان ، فإن المروزي نقل عن أحمد أنه قال : (( عكرمة يحتج به )) .
وذكر يحيى بن معين عن محمد بن فضيل ثنا عثمان بن حكيم قال : جاء عكرمة إلى أبي أمامة بن سهل وأنا جالس عنده ، قال : (( يا أبا أمامة ، أسمعت ابن عباس يقول : ما حدثكم عكرمة عني بشئ فصدقوه فإنه لن يكذب عليّ ؟ قال نعم )) .
وقال ابن معين : (( إذا سمعت من يقع في هكرة فاتهمه على الإسلام )) .
وقال أبو حاتم الرازي : (( يحتج بحديثه إذا روى عنه الثقات قال : والذي أنكر عليه مالك وحيى بن سعيد فلسبب رأيه )) . يعني أنه نسب إلى رأي الخوارج .
وأما تكذيب ابن عمر له [ قد ] روي من وجوه لا تصح ، وقد أنكره مالك ، قال إسحاق بن عيسى قلت لمالك : (( أبلغك أن ابن عمر قال لنافع لا تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس ؟ )) قال : (( لا . ولكن بلغني أن ابن المسيب قال ذلك لبرد مولاه )) .
وذكر أحمد أن ابن سيرين كان يروي عنه ولا يسميه ، وكذلك مالك . وأشا رأحمد إل أنهما طعنا في مذهبه ورأيه ، لكن روي هن ابن سيرين أنه كذبه من رواية الصّلت بن دينار عنه ، والصّلت لا تقبل رواياته ، وابن سيرين لا يروي عن كذاب أبداً .
وممن اختلف في اتهامه بالكذب أيضاً محمد بن إسحاق :
وقد سبق ذكره .
ومنهم : جابر الجعفي :
وقد سبق ذكره مستوفي في أبواب الأذان .
ومنهم : كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف .
فإن الترمذي يصحح حديثه ، وقد مضى أمره غير واحد ، وتركه الأكثرون ، وضرب أحمد على حديثه ولم يخرجه في المسند .
ومنهم : إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى :
والأكثرون على اتهامه بالكذب .
ومثال القسم الثاني :
وهو من اختلف فيه هل هو ممن غلب على
حديثه الوهم والغلط أم لا :
عبد الله بن محمد بن عقيل :
وقد ذكر الترمذي في أول كتابه عن البخاري أن أحمد وإٍحاق والحميدي كانوا يحتجون بحديثه . وقد صحح الترمذي حديثه .
وقال ابن معين وغيره : (( لا يحتج به )) .
وقال الجوزجاني : (( عامة ما يروى عنه غريب )) ، وتوقف عنه .
وكذلك : عاصم بن عبيد الله العمري :
فإن الترمذي يصحح حديثه في غير موضع ، والأكثرون ذكروا أنه كان مغفلاً يغلب عليه الوهم والغلط .
قال شعبة : (( كان عاصم لو قلت له من بنى مسجد البصرة ؟ لقال : حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بناه )) .
وقال شعبة : أيضاً : (( كان عاصم لو قلت له رأيت رجلاً راكباً حماراً لقال : حدثني أبي )) .
ومثال القسم الثالث
وهو من اختلف فيه هل هو ممن كثر خطؤه
وفحش أم ممن قل خطؤه :
حكيم بن جُبير الأسدي الكوفي :
فإنه قليل الحديث ، وله أحاديث منكرة . قال محمد بن عبد الرحمن العنبري عن عبد الرحمن بن مهدي وسئل عن حكيم بن جبير فقال : (( إنما روى أحاديث يسيرة ، وفيها أحاديث منكرات )) .
وقال ابن المديني . سألت يحيى بن سعيد عنه فقال : (( كم روى ؟ إنما روى شيئاً يسيراً . وقال يحيى : وقد روى عنه زائدة . قلت ليحيى : من تركه ؟ قال : شعبة . قلت : من أجل حديث الصدقة ؟ قال : نعم . ثم قال يحيى : نحن نحدث عمن دون هؤلاء )) .
وقد خرّج الترمذي حديث الصدقة في كتاب الزكاة وحسنه . وسبق الكلام عليه هناك مستوفي .
وقد احتج به أحمد في رواية عنه ، وعضده بأن سفيان رواه عن زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد ، وقد أنكر ابن معين وغيره حديث زبيد هذا ، وقال ابن حبان في حكيم بن جبير : (( كان غالياً في التشيع ، كثير الوهن فيما يروي ، كان أحمد لا يرضاه )) . وخرج له ابن حبان حديث الصدقة ، وقال : (( ليس له طريق يعرف ، ولا رواية إلا من حديث حكيم بن جبير ، وحكيم هذا روى عنه الثوري والأعمش وزائدة وغيرهم ، وتركه شعبة ويحيى وابن مهدي . وقيل : إن يحيى كان يحدث عنه )) .
وقال الجوزجاني : (( هو كذاب )) .
وقد تقدم أن الترمذي حسن حديثه . وقال أحمد في رواية عنه في حديث الصدقة : (( هو حسن )) واحتج به .
وقال مرة [ في حكيم ] : (( هو ضعيف الحديث مضطرب )) .
وقال ابن معين : (( ليس بشئ )) .
وقال أبو زرعة : (( في رأيه شئ ، ومحله الصدق إن شاء الله تعالى )) .
وقال أبو حاتم (( ضعيف الحدي منكر الحديث ، له رأي غير محمود ، قال : وهو قريب من يونس من خباب ونوير بن أبي فاخته )) .
وقال النسائي : (( ليس بالقوي )) . وقال الدار قطني : (( متروك )) .
وممن اختلف في أمره ، هل هو ممن فحش خطؤه أم لا ؟
عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي :
واسم أبي سليمان ميسرة .
قال أمية بن خالد : (( قلت لشعبة : مالك لا تحدث عن عبد الملك ابن أبي سليمان ؟ قال : تركت حديثه . قلت : تحدث عن محمد بن عبيد الله العرزمي وتدعى عبد الملك بن أبي سليمان وكان حسن الحديث ! ؟ قال : من حسنها فررت ! )) . خرّجه ابن أبي حاتم والعقيلي وابن عدي وغيرهم .
[
و ] قال وكيع عن شعبة : (( لو روى عبد الملك بن أبي سليمان حديثاً آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه ! )) .
وقد خرج الترمذي حديث الشفعة في كتاب الأحكام والأقضية وسبق الكلام عليه هناك مستوفى .
وقد ذكر الإمام أحمد أن له منكرات ، وأنه يوصل أحاديث يرسلها غيره ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب النكاح : في باب تنكح المرأة على ثلاث .
وقال أبو بكر بن خلاد : سمعت يحيى هو ابن سعيد يقول : (( كأن صفة حديث عبد الملك بن أبي سليمان فيها شئ منقطع يوصله ، وموصل يقطعه )) .
وقال أحمد : (( كان من الحفاظ ، وكان سفيان الثوري يسميه الميزان )) .
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن نوفل بن مطهر عن ابن المبارك عن سفيان قال : (( حفاظ الناس ثلاثة : إسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري )) .
ووثقه يحيى بن معين ، وسئل : أهو أحب إليك أم ابن جريج ؟ قال : كلاهما ثبتان )) .
وقال أحمد : (( هو يخالف ابن جريج في أحاديث ، وابن جريج عندنا أثبت منه )) .
وخرج له مسلم ، وإنما ترك شعبة حديثه لرواية حديث الشفعة ، لأن شعبه من مذهبه أن من روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه ولم يتهم نفسه فيتركه ، ترك حديثه ، وقد ذكرنا ذلك عنه فيما تقدم .
وروى نعيم بن حماد عن ابن مهدي عن شعبة أنه سئل عمن يستوجب الترك ؟ قال : (( إذا أكثر عن المعروفين ما لا يعرف ، أو تمادى في غلط مجمع عليه فلم يشكك نفسه فيه ، أو كذاب . وسائر الناس فارو عنه )) .
وخرج أبو بكر الخطيب بإسناده عن يحيى بن معين أنه سئل عن رجل حدث بأحاديث منكرة ، فردها عليه أصحاب الحديث ، إن هو رجع عنها وقال : ظننتها ، فأما إذا أنكرتموها ورددتموها عليّ فقد رجعت عنها ؟ .
فقال : لا يكون صدوقاً أبداً ، إنما ذاك الرجل يشتبه له الحديث الشاذ والشئ فيرجع عنه . فأما الأحاديث المنكرة التي لا تشتبه لأحد فلا )) .
فقيل ليحيى : فما يبرئه قال : (( يخرج كتاباً عتيقاً فيه هذه الأحاديث ، فإذا أخرجها في كتاب عتيق فهو صدوق [ و ] قد شبه له فيهه ، وأخطأ كما يخطئ الناس ، ويرجع عنها ، وإن لم يخرجه فهو كذاب أبداً )) .
وقد ذكر فيما تقدم عن ابن المبارك : أن الحديث لا يكتب عن غلاط لا يرجع . وعن أحمد : أن الحديث لا يكتب عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل .
وأما محمد بن عبيد الله العرزمي :
الذي روى عنه شعبة وروى عنه سفيان أيضاً : فهو ابن أخي عبد الملك بن أبي سليمان المذكور قبله ، وكان شريك ينسبه إلى جده تدليساً فيقول : (( نا محمد بن أبي سليمان )) وقد تركه ابن المبارك . وكان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه .
قال يحيى : (( سألته ؟ فجعل لا يحفظ ، فأتيته بكتاب فجعل لا يحسن يقرأ ! )) .
قال وكيع : (( هو رجل صالح ، ذهبت كتبه فكان يحدث حفظاً ، فمن ذاك أتي )) .
وقال ابن نمير : (( هو رجل صدوق . ولكن ذهبت كتبه ، وكان ردئ الحفظ ، فمن ثم أنكرت أحاديثه )) .
وضعفه ابن معين ، وقال : (( ليس بشئ ، ولا يكتب حديثه )) .
وقال الفلاس والنسائي : (( متروك الحديث )) .
قال ابن عدي : (( عامة رواياته غير محفوظة )) . وقال ابن حبان : (( كان صدوقاً إلا أن كتبه ذهبت ، وكان ردئ الحفظ ، فجعل يحدث من حفظه ويهم ، فكثر المناكير في رواياته )) .
وأما الزبير : محمد بن مسلم بن تدرس المكي :
فإن شعبة ترك حديثه ، وأعتلّ بأنه رآه لا يحسن يصلي ، وبأنه رآه يزن ويسترجح في الوزن ، وبأن رجلاً أغضبه فافترى عليه وهو حاضر . قال شعبة : (( وفي صدري لأبي الزبير عن جابر أربعمائة حديث ، والله لا حدثت عنه حديثاً أبداً )) ، ولم يذكر عليه كذباً ولا سوء حفظ . وقد اختلف العلماء فيه :
قال المروذي سألت أبا عبد الله – يعني أحمد – عن أبي الزبير ؟ فقال : : (( قد روى عنه قوم واحتملوه ، روى عنه أيوب ، وغير واحد ، إلا أن شعبة لم يحدث عنه . قلت : هو لين الحديث ؟ فكأنه لينه ، قلت : هو أحب إليك ، أو أبو نضرة ؟ قال : (( أبو نضرة أحب إلىّ )) . انتهى .
وتكلم فيه أيوب أيضاً : (( قال ابن المديني ثنا سفيان ثنا أيوب ثنا أبو الزبير وهو أبو الزبير فغمزه )) . كذا خرّجه العقيلي من طريق البخاري عن علي .
وهذا خلاف ما فسره به الترمذي أنه عنى حفظه وإتقانه .
وخرّج ابن عدي هذا الأثر من طريق الترمذي عن ابن أبي عمر عن سفيان وعنده قال سفيان : (( هذه نقيصة )) وهذا خلاف ما وجدنا في نسخ كتاب الترمذي .
وقال عبد الله بن أحمد قال أبي : (( كان أيوب يقول : ثنا أبو الزبير وأبو الزبير أبو الزبير ، قلت لأبي : (( كأنه يضعفه ؟ قال : نعم )) .
وخرج العقيلي أيضاً من طريق أبي عوانة قال : (( كنا عند عمرو بن دينار جلوساً ومعنا أيوب ، فحدثنا أبو الزبير بحديث ، فقلت لأيوب : تدري ما هذا ؟ فقال : هو لا يدري ما حدث ، أدري هذا ؟! )) . وهذا يدل على أن أيوب كان يغمزه لا أنه كان يقويه .
وخرج العقيلي من طريق أبي داود أنا رجل من أهل مكة قال قال ابن جريج : (( ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى حديث أبي الزبير يروى )) .
ومن طريق نعيم بن حماد قال : سمعت سفيان يقول : (( حدثني أبو الزبير وهو أبو الزبير ، كأنه يضعفه .
وروى عبد الجبار بن العلاء نا ابن عيينة : (( حدثني عمرو ابن دينار ، وأبو الزبير . وعمرو بن دينار أوثق عندنا من أبي الزبير )) . [ و ] قال ابن خراش : وثنا زيد بن أخزم نا أبو عاصم سمعت ابن جريج يقول : (( إن أبا الزبير اتخذ جابراً مطية )) . وقد وثقه ابن معين .
وقال أحمد في رواية ابن هانئ : (( هو حجة احتج به )) .
وقال يعلى بن عطاء المكي : (( نا أبو الزبير المكي وكان أكمل الناس عقلاً وأحفظه )) .
وقال ابن عدي : (( كفى بأبي الزبير صدقاً أن يحدث عنه مالك ، فإن مالكاً لا يحدث إلا عن ثقة ، ولا أعلم أحداً من الثقات تخلف عنه إلا وقد كتب عنه ، وهو في نفسه ثقة صدوق ولا بأس به )) انتهى .
خرج حديثه مسلم ، وخرج له البخاري مقروناً .
* * *
*
فصل في تقسيم أحاديث الترمذي واصطلاحاتها *
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
وما ذكرنا في هذا الكتاب : حديث حسن ، فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا : كل حديث يروى لا يكون في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون الحديث شاذاً ، ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن .
وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث غريب ، فإن أهل الحديث يستغربون الحديث بمعان :
رب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد ، مثل : ما حدث به حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ؟ فقال : (( لو طعنت في فخذها أجزأ عنك )) .
فهذا حديث تفرد به حماد بن سلمة عن أبي العشراء ، ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه إلا هاذ الحديث ، وإن كان هذا الحيدث مشهوراً عند أهل العلم فإنما اشتهر من حديث حماد بن سلمة ، ولا نعرفه إلا من حديثه .
ورب رجل من الأئمة يحدث بالحديث لا يُعرف إلا من حديثه ويشتهر الحديث لكثرة من روى عنه .
مثل : ما روى عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( نهى عن بيع الولاء ، وعن هبته )) .
لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار : روى عنه عبيد الله بن عمر ، وشعبة ، وسفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، وابن عيينة ، وغير واحد من الأئمة .
وروى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، فوهم فيه يحيى بن سليم .
والصحيح هو عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، هكذا روى عبد الوهاب الثقفي وعبد الله بن نمير عن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر .
وروى المؤمل هذا الحديث عن شعبة فقال شعبة : (( وددت أن عبد الله بن دينار أذن لي حتى كنت أقوم إليه فأقبّل رأسه )) .
اعلم أن الترمذي قسم – في كتابه هذا – الحديث إلى صحيح ، وحسن ، وغريب . وقد يجمع هذه الأوصاف الثلاثة في حديث واحد ، وقد يجمع منها وصفين في الحديث ، وقد يفرد أحدها في بعض الأحاديث .
*
بدء ابتكار هذا التقسيم *
وقد نسب طائفة من العلماء الترمذي إلى هذا التفرد بهذا التقسيم ، ولا شك أنه هو الذي اشتهرت عنه هذه القسمة .
وقد سبقه البخاري إلى ذلك ، كما ذكره الترمذي عنه في كتاب العلل أنه قال في حديث البحر : (( هو الطهور ماؤه)):هو حديث حسن صحيح ، وأنه قال في أحاديث كثيرة :(( هذا حديث حسن )) وكذلك ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال في حديث إبراهيم بن أبي شيبان عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن عبد الله بن حوالة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( تستجندون أجناداً .. الحديث )) . قال : (( هو صحيح حسن غريب )) .
وقد كان أحمد وغيره يقولون : (( حديث حسن )) .
وأكثر ما كان الأئمة المتقدمون يقولون في الحديث : إنه صحيح أو ضعيف . ويقولون : منكر ، وموضوع ، وباطل .
وكان الإمام أحمد يحتج بالحديث الضعيف الذي لم يرد خلافه ، ومراده بالضعيف قريب من مراد الترمذي بالحسن .
وقد فسر الترمذي ههنا مراه بالحسن ، وفسر مراده بالغريب ، ولم يفسر معنى الصحيح .
ونحن نذكر ما قيل في معنى الصحيح أولاً ، ثم نشرح ما ذكره الترمذي في معنى الحسن ، والغريب ، إن شاء الله تعالى .
*
فصل في الصحيح من الحديث وما يتفرع على شروطه *
أما الصحيح من الحديث :
وهو الحديث المحتج به ، فقد ذكر الشافعي رحمه الله شروطه بكلام جامع .
قال الربيع : قال الشافعي : (( ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً .
منها : أن يكون من حدّث به ثقة في دينه ، معروفاً بالصدق في حديثه ، عاقلاً لما يحدث به . عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ .
أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ولا يحدث به على المعنى ، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام ، وإذا أدى بحروفه لم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث .
حافظاً إن حدث من حفظه ، حافظاً لكتابه إن حدث من كتابه . إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم .
برياً من أن يكون مدلساً يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه أو يحدث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يحدث الثقات خلافه ، ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهى بالحديث موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو إلى من انتهى به إليه دونه ، لأن كل واحد مثبت لمن حدثه ، ومثبت على من حدث عنه )) .
قال : (( ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه ، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادات لم نقبل شهادته )) .
قال : (( وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً )) .
((
ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته فيروايته ، وليست تلك العورة بكذب فيرد بها حديثه ، ولا على النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق ، فقلنا ، لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت )) .
فقد تضمن كلامه رحمه الله أن الحديث لا يحتج به حتى يجمع رواته من أولهم إلى آخرهم شروطاً :
أحدها : الثقة في الدين ، وهي العدالة :
وشروط العدالة مشهورة معروفة في كتب الفقه .
والثاني : المعرفة بالصدق في الحديث :ويعني بذلك أن يكون الراوي معروفاً بالصدق في روايته ، فلا يحتج بخبر من ليس بمعروف بالصدق ، كالمجهول الحال ، ولا من يعرف بغير الصدق .
وكذلك ظاهر كلام الإمام أحمد أن خبر مجهول الحال لا يصح ولا يحتج به ، ومن أصحابنا من خرّج قبول حديثه على الخلاف في قبول المرسل .
وقال الشافعي أيضاً : (( كان ابن سيرين والنخعي وغير واحد من التابعين يذهب هذا المذهب في أن لا يقبل إلا ممن عرف )) .
وقال : (( وما لقيت ولا علمت أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب )) .
الثالث : العقل لما يحدث به :
وقد روي مثل هذا الكلام عن جماعة من السلف ، ذكر ابن أب الزناد عن أبي قال : (( أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ، ما يؤخذ عنهم شئ من الحديث ، يقال : ليس من أهله )) . خرجه مسلم في مقدمة كتابه .
وروى إبراهين بن المنذر حدثني معن بن عيسى قال كان مالك يقول : (( لا تأخذ العلم من أربعة ، وخذ ممن سوى ذلك : لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه ، وإن كان أروى الناس . ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس ، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . ولا من صاحب هوى يدعو الناس إل هواه . ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به )) .
قال إبراهيم بن المنذر : (( فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله اليساري مولى زيد بن أٍلم ، فقال : ما أدري ما هذا ؟ ولكن أشهد لسمعت مالك بن أنس يقو ل: (( لقد أدركت بهاذ البلد – يعني المدينة – مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون ، ما سمعت من واحد منهم حديثاً قط ! قيل : ولم يا أبا عبد الله ؟ قال : لم يكونوا يعرفون ما يحدثون )) .
وروى ضورة عن سعيد بن عبد العزيز عن مغيرة عن إبراهيم قال : (( لقد رأيتنا وما نأخذ الأحاديث إلا ممن يعرف حلالها من حرامها وحرامها من حلالها ، وإنك لتجد الشيخ يحدث بالحديث فيحرف حلاله عن حرامه ، وحرامه ن حلاله وهو لا يشعر )) .
وقال محمد بن عبد الله بن عمّار الحافظ الموصلي وقد سئل عن علي بن غراب ؟ فقال : كان صاحب حديث بصيراً به ، قيل له : أليس هو ضعيفاً ؟ قال : إنه كان يتشيع ، ولست بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو للقدر ، ولست براو عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولوكان أفضل من فتح ، يعني الموصلي )) .
وحكى الترمذي في علله عن البخاري قال : (( كل من لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أحدث عنه )) وسمى منهم زمعة بن صالح وأيوب بن عتبة .
وحكى الحاكم هذا المذهب عن مالك ، وأبي حنيفة ، وحكى عن أكثر أهل الحديث الاحتجاج بحديث من لا يعرف ما يحدث به ولا يحفظه .
والظاهر – والله أعلم – حمل كلام الشافعي رحمه الله على من لا يحفظ لفظ الحديث ، وإنما يحدث بالمعنى ، كما صرح بذلك فيما بعد .
وكذلك نقل الربيع عن في موضع آخر أنه قال : (( تكون اللفظة تترك من الحديث فيختل المعنى ، أو ينظق بها بغير لفظ المحدث والناط بها غير عامد لإحالة الحديث [ فيختل معناه . فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى – وكان غير عاقل للحديث - ] فلم يقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل إذا كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ،وكان يلتمس روايته على معانيه وهو لا يعقل المعنى )) .
إلى أن قال : (( فالظنة فيمن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته له فيما هو ظنين فيه )) .
فهذا يبين أن الشافعي إنما اعتبر في الرواي أن يكون عارفاً بمعاني الحديث إذا كان يحدث بالمعنى ولا يحفظ الحروف ، والله أعلم .
فقوله هنا : (( عاقلاً لما يحدث به ، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ )) هو شرط واحد ليس فيه تكرير ، بل مراده بعقل ما يحدث به فهم المعنى . ومراده بالعلم بما يحيل المعنى من الألفاظ معرفة الألفاظ التي تؤدي بها المعاني .
وقد فسر أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة قول الشافعي : (( عاقلاً لما يحدث به ، بأن مراده أن يكون الراوي ذا عقل فقط قال : (( وهذا شرط بإجماع )) .
وهذا الذي قاله فيه نظر وضعف .
وهذا كله في حق من لا يحفظ الحديث بألفاظه ، بدليل أنه قال بعد ذلك : (( أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه ، ولا يحدث به على المعنى )) ، فجعل هذا قسيماً للذي قبله .
فقسم الرواة إلى قسمين :
من يحدث بالمعنى ، فيشترط فيه أن يكون عاقلاً لما يحدث به من المعاني ، عالماً بما يحيل المعنى من الألفاظ .
ومن يحدث باللفظ ، فيشترط فيه الحفظ للفظ الحديث واتقانه . وما علل به من اشتراط معرفة المعنى واللفظ المؤدي له ، فهو حق واضح ، وقد سبق معنى ذلك عن إبراهيم النخعي .
وقد قال أحمد في رواية الأثرم : (( سعيد بن زكريا المدايني : كنا كتبنا عنه ثم تركناه ، قيل له : لم ؟ قال : لم يكن أرى به في نفسه بأساً ، لكن لم يكن بصاحب حديث )) . وهذا محمول على أنه كان يحدث من حفظه أيضاً فيخشى عليه الغلط .
الرابع : حفظ الراوي :
فإن كان يحدث من حفظه اعتبر حفظه لما يحديث به ، لكن إن كان يحدث باللفظ اعتبر حفظه لألفاظ الحديث ، وإن كان يحدث بالمعنى اعتبر حفظه لألفاظ الحديث ، وإن كان يحدث بالمعنى اعتبر معرفته بالمعنى وباللفظ الدال عليه كما تقدم ، وإن كان يحدث من كتابه حفظه لكتابه ، وقد سبق كلام الأئمة واختلافهم في جواز التحديث من الكتاب ، وفي صفة حفظ الكتاب بما فيه كفاية .
الخامس : أن يكون في حديثه الذي لا ينفرد به يوافق الثقات في حديثهم :
فلا يحدث بما لا يوافق الثقات . وهذا الذي ذكره معنى قول كثير من الأئمة الحفاظ في الجرح في كثير من الرواة : (( يحدث بما يخالف الثقات )) . أو (( يحدث بما لا يتابعه الثقات عليه )) .
لكن الشافعي اعتبر أن لا يخالفه الثقات ، ولهذا قال بعد هذا الكلام : (( بريّاً أن يحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما يحدث الثقات خلافه )) .
وقد فسر الشافعي الشاذ من الحديث بهذا :
قال يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول : (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة حديثاً لم يروه غيره ، إنما الشاذ من الحديث أن يروي الثقات حديثاً فيشذ عنهم واحد فيخالفهم )) .
وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث – إذا تفرد به واحد – وإن لم يرو الثقات خلافه - : (( إنه لا يتابع عليه ، ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ،ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه . قال صالح بن محمد الحافظ : (( الشاذ : الحديث المنكر الذي لا يعرف )) . وسيأتي لذلك مزيد إيضاح عند ذكر الحديث الغريب إن شاء الله تعالى .
السادس : أن لا يكون مدلساً :
فمن كان مدلساً : يحدث عمن رآه بما لم يسمعه منه فإنه لا يقبل منه حديثه حتى يصرح بالسماع ممن روى عنه ، وهذا الذي ذكره الشافعي قد حكاه يعقوب بن شيبة عن يحيى بن معين .
وقال الشاذكوني : (( من أراد التدين بالحديث فلا يأخذ عن الأعمش ، ولا عن قتادة ، إلا ما قالا سمعناه )) .
وقال البرديجي : (( لا يحتج من حديث حميد إلا بما قال : ثنا أنس )) .
ولم يعتبر الشافعي أن يتكرر التدليس من الراوي ولا أن يغلب على حديثه ، بل اعتبر ثبوت تدليسه ولو بمرة واحدة .
واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل . وقالوا : إذا غلب عليه التدليس لم يقبل حديثه حتى يقول : ثنا ، وهذا قول ابن المديني ، حكاه يعقوب بن شيبة عنه .
وذكر مسلم في مقدمة كتابه : أنه إنما يعتبر التصريح بالسماع ممن شهر بالتدليس وعرف به .
وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس عن الثقات أو عن الضعفاء ، فإن كان يدلس عن الثقات قبل حديثه وإن عنعنه . وإن كان يدلس عن غير الثقات لم يقبل حديثه حتى يصرح بالسماع ، وهذا الذي ذكره حسيم الكرابيسي وأبو الفتح الأزدي الموصلي الحافظ ، وكذلك ذكره طائفة من فقهاء أصحابنا ، وهذا بناء على قولهم بقبول المراسيل .
واعتبروا كثرة التدليس في حق من يدلس عن غير الثقات .
وكذا ذكر الحاكم أن المدلس إذا لم يذكر سماع في الرواية فحكم حديثه حكم المرسل ، وكذلك أشار إليه أبو بكر الصيرفي في شرح رسالة الشافعي .
وأما الإمام أحمد فتوقف في المسألة ، قال أبو داود : سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس في الحديث يحتج فيما لم يقل فيه : حدثني أو سمعت ؟ قال : لا أدري .
وأما من يدلس عمن لم يره فحكم حديثه حكم المرسل ، وقد سبق ذكره . ومتى صرح بالسماع أو قال نا أو أنا فهو حجة ، وزعم أبو الطيب الطبري من الشافعية أنه لا يحتج بقول المدلس : أنا ، لأنه في يكون إجازة . وهذا ضعيف ، فإن مثله يتطرق إلى قوله : ثنا أيضاً ، فإن ذلك جائز عند كثير من العلماء في الإجازة ، كما سبق .
ثم إن الإجازة والمناولة تصح الرواية بهما على ما تقدم ، فيحتج بحديث من حدث بهما حينئذ /، وأيضاً فقد تستعمل ثنا في الإرسال ؛ كما كان الحسن يقول : (( ثنا ابن عباس )) . ويتأول أنه حدث أهل البصرة ، ولكن هذا استعمال نادر ، والحكم للغالب .
وأما قول الشافعي : إن التدليس بكذب يرد به حديث صاحبه كله ، فهذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة ، لأن قول من سمع منه المدلس عن فلان ليس بكذب منه ، وإنما فيه كتمان من سمع منه عن فلان . وحكي الخطيب هذا القول عن كثير من العلماء . وعن بعضهم أنهكذب يرد به حديث صاحبه ، وممن قال إنه كذب : حماد بن زيد ، وأبو أسامه .
وقال شعبة : (( هو أخو الكذب )) ، وقال مرة : (( هو أشد من الزنا )) . وروى رزق الله بن موسى عن وكيع قال : لا يحل تدليس الثوب فكيف يحل تدليس الحديث ؟ )) .
وهذا في التدليس عن غير الثقات ظاهر .
وقال أحمد في التدليس : (( أكرهه ، قيل له : قال شعبة : هو كذب ؟ قال أحمد : لا ، قد دلس قوم ونحن نروي عنهم )) .
وقال يحيى بن معين : كان الأعمش يرسل ، فقيل له : إن بعض الناس قال : من أرسل لا يحتج بحديثه ! فقال : الثوري إذاّ لا يحتج بحديثه ، وقد كان يدلس ، إنما سفيان أمير المؤمنين في الحديث )) انتهى
والتدليس مكروه عند الأكثرين ، لما فيه من الإيهام ، وهو عن الكذابين أشد . وقد صرح طائفة من العلماء : منهم مسلم في مقدمة كتابه بأن من روى عن غير ثقة وهو يعرف حاله ولم يبين ذلك إلا لمن لا يعرفه أنه يكون آثماً بذلك ، يريدون أنه فعل محرم ، فإسقاط من ليس بثقة من الحديث أقبح من الرواية عنه من غير تبيين حاله .
ورخص في التدليس طائفة ، قال يعقوب بن شيبة : (( من رخص فيه فإنما رخص فيه عن ثقة سمع منه . وأما من دلس عمن لم يسمع منه فلم يرخص فيه ، وكذا إذا دلس عن غير ثقة )) .
كذا قال يعقوب : وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضاً ، فلا يصح ما ذكره يعقوب .
*
الحديث المعنعن وشروط قبوله *
وقول الشافعي رحمه الله : (( وأقبل الحديث حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً ؛ مراده أنه يقبل العنعنة عمن عرف منه أنه ليس بمدلس ، فإن الربيع نقل عنه أيضاً قال في كلام له : (( لم يعرف التدليس ببلدنا فيمن مضى ، ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثاً ، فإن منهم من قبله عمن لو تركه عليه كان خيراً له ، وكان قول الرجل : (( سمعت فلاناً يقول : سمعت فلاناً )) وقوله : (( حدثني فلان عن فلان )) سواء عندهم ، لا يحدث واحد منهم من لقي إلا ما سمع منه ، فمن عرفناه بهذا الطريق قبلنا منه حدثني فلان عن فلان إذا لم يكن مدلساً )) .
وظاهر هذا أنه لا يقبل العنعنة إلا عمن عرف منه أنه لا يدلس ولا يحدث إلا عمن لقبه ما سمع منه .
وهذا قريب من قول من قال : إنه لا يقبل العنعنة إلا عمن ثبت أنه لقيه ، وفيه زيادة أخرى عليه ، وهي اشترط أنه يعرف أنه لا يدلس عمن لقيه أيضاً ، ولا يحدث إلا بما سمعه .
وقد فسره أبو بكر الصيرفي في شرح الرسالة باشتراط ثبوت السماع لقبول العنعنة ، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعم التدليس ، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف . فإذا صح السماع فهو عليه حتى يعلم غيره . قال : وهذا الذي قاله صحيح )) انتهى .
وهذه المسألة فيها اختلاف معروف بين العلماء ، وقد أطال القول فيها مسلم في مقدمة كتابه ، واختار أنه تقبل العنعنة من الثقة غير المدلس عمن عاصره وأمكن لقيه له ، ولا تعتبر المعرفة باجتماعهما والتقائهما .
وذكر عن بعضهم أنه اعتبر المعرفة بلقائهما واجتماعهما ، وأنه لا تقبل العنعنة من الثقة عمن لم يعرف أنه [ لقيه و ] اجتمع به .
وردّ هذا القول على قائله رداً بليغاً ، ونسبه إلى مخالفة الإجماع في ذلك .
واستدل مسلم على صحة قوله ، باتفاق العلماء على قبول الخير إذا رواه الثقة عن آخر ممن تيقن أنه سمع منه من غير اعتبار أن يقول : (( ثنا )) أو (( سمعت )) ، ولو كان الإسناد لا يتصل إلا بالتصريح بالسماع لم يكن فرق بين الرواية عمن ثبت لقيه ومن لم يثبت ، فإنا نجد كثيراً ممن روى عن رجل ثم [ قد ] روى حديثاً عن آخر عنه .
وقد طرد بعض المتأخرين من الظاهرية ونحوهم هذا الأصل ، وقال : كل خبر لا يصرح فيه بالسماع فإنه لا يحكم بالتصاله مطلقاً .
وربما تعلق بعضهم بقول شعبة : (( كل إسناد فيه ثنا وأنا فهو خلّ وبقل )) . وروي عن شعبة قال : (( فلان عن فلان ليس بحديث )) . قال وكيع وقال سفيان : (( هو حديث )) . قال ابن عبد البر : (( رجع شعبة إلى قول سفيان في هذا )) . وهذا القول شاذ مطرح ، وقد حكى مسلم وغيره الإجماع على خلافه .
وقال الخطيب : (( أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث (( ثنا فلان عن فلان )) صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنهولقيه وسمع منه ، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس )) انتهى .
ومما استدل به مسلم على المخالف له : إن من تكلم في صحة الحديث من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع ، وسمى منهم شعبة ، والقطان ، وابن مهدي . قال : (( ومن بعدهم من أهل الحديث )) .
وذكر أن عبد الله بن يزيد روى عن حذيفة وأبي مسعود حديثين ، ولم يرد أنه سمع منهما ولا رآهما قط ، ولم يطعن فيهما أحد .
وذكر أيضاً رواية أبي عثمان النهدي وأبي رافع الصائغ عن أُبي بن كعب ، ورواية أبي عمرو الشيباني وأبي معمر عن أبي مسعود ، ورواية عبيد بن عمير عن أم سلمة ، ورواية بن أبي ليلى عن أنس ، وربعي بن حراش عن عمران بن حصين ، ونافع بن جبير عن أبي شريح ، والنعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد ، وعطاء ابن يزيد عن تميم الداري ، وسليمان بن يسار عن رافع بن خديج ، وحميد الحميري عن أبي هريرة : وكل هؤلاء لم يحفظ لهم عن هؤلاء الصحابة سماع ، ولا لقاء ، يعني وقد قبل الناس حديثهم [ عنهم ] .
وقال الحاكم : قرأت بخط محمد بن يحيى سألت أبا الوليد : أكان شعبة يفرق بين أخبرني وعن ؟ فقال : (( أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما ! )) . وحمله البيهقي على من لا يعرف بالتدليس ، و [ ويمكن حمله على من ثبت لقيه أيضاً ] .
وكثير من العلماء المتأخرين هلى ما قاله مسلم رحمه الله : من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس ، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره . [ وقد ذكر الترمذي في كتاب العلم أن سماع سعيد بن المسيب من أنس ممكن ، لكن لم يحكم لروايته عنه بالاتصال ] .
وقد حكى بعض أصحابنا عن أحمد مثله .
وقال الأثرم : سألت أحمد قلت : (( محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير ؟ )) قال : (( نعم سمع من الأسود غير شئ )) كأنه يقول : إن الأسود أقدم .
لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح بسماعه منه ، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول منا ذكر سماعه من سعيد بن جبير ، فإنه كثيراً ما يرد التصريح بالسماع ، ويكون خطأ ، وقد روى ابن مهدي عن شعبة سمعت أبا بكر بن محمد بن حزم ، فأنكره أحمد وقال : (( لم يسمع شعبة من أحد من اهل المدينة من القدماء ما يستدل به على أنه سمع من أبي بكر إلا سعيداً المقبري فإنه روى عنه حديثاً ، فقيل له : فإن المقبري قديم ؟ فسكت أحمد .
وأما جمهور المتقدمين فعل ما قاله ابن المديني والبخاري ، وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله.
وحكى عن أبي المظفر بن السمعاني : أنه اعتبر لاتصال الإسناد اللقي وطول الصحبة . وعن أبي عمرو الداني أن يكون معروفاً بالرواية عنه ، وهذا أشد من شرط البخاري وشيخه الذي أنكره مسلم .
وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، وغيرهم من أعيان الحفاظ .
*
فائدة في شواهد اشتراط ثبوت السماع
في الحديث المعنعن *
بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه ، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة ، وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم ، فرواياتهم عنهم مرسلة . منهم الأعمش ، ويحيى بن أبي كثير ، وأيوب ، وابن عون ، وقرة بن خالد ، رأوا أنساً ولم يسمعوا منه ، فرواياتهم عنه مرسله .
كذا قاله أبو حاتم ، وقاله أبو زرعة [ أيضاً ] في يحيى بن أبي كثير .
وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير : (( قد رأى أنساً فلا أدري سمع منه أم لا ؟ )) . ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية ، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي .
وكذلك كثير من صبيان الصحابة رأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يصح لهم سماع منه ، فرواياتهم عنه مرسلة ، كطارق بن شهاب وغيره .
وكذلك من علم منه أنه مع اللقاء لم يسمع ممن لقيه إلا شيئاً يسيراً ، فرواياته عنه زيادة على ذلك مرسلة ، كروايات ابن المسيب عن عمر ، فإن الأكثرين نفوا سماعه منه ، وأثبت أنع رآه وسمع منه ، وقال مع ذلك : إن رواياته عنه مرسلة لأنع إنما سمع منه شيئاً يسيراً ، مثل نعيه للنعمان بن مقرن على المنبر ، ونحو ذلك .
وكذلك سماع الحسن بن عثمان [ وهو ] على المنبر يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، ورواياته عنه غير ذلك مرسلة .
وقال أحمد : (( ابن جريج لم يسمع من طاووس ولا حرفاً ، ويقول : رأيت طاووساً )) .
وقال أبو حاتم الرازي أيضاً : (( الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر ، رآه ولم يسمع منه ، ورأى عبد الله بن جعفر ولم يسمع منه )) .
وأثبت أيضاً دخول مكحول على وائلة بن الأسقع ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه . وقال : (( لم يصح له منه سماع )) ، وجعل رواياته عنه مرسلة ، وقد جاء التصريح بسماع مكحول من وائلة للحديث من وجه فيه نظر ، وقد ذكرناه في أواخر كتاب الأدب . وقد ذكر الترمذي دخول مكحول على وائلة في ذكر الرواية بالمعنى .
وقال أحمد : (( أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه ، من أين يسمع منه ؟ )) . ومراده من أين صحت الروايو بسماعه منه ، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد .
وقال أبو زرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف : (( لم يسمع من عمر )) . هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
فدل كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع ، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري ، فإن المحكي عنهما : أنه يعتبر أحد أمرين : إما السماع وإما اللقاء ، وأحمد ومن نبعه : عندهم لا بد من ثبوت السماع ، ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال : (( ابن سيرين لم يج عنه سماع من ابن عباس )) .
وقال أبو حاتم : (( الزهري أدرك أبان بن عثمان ومن هو أكبر منه ولكن لا يثبت له السماع ، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة ، وقد سمع ممن هو أكبرمنه ، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك ، واتفاقهم على شئ يكون حجة )) .
واعتبار السماع أيضاً لاتصال الحديث هو الذي ذكره ابن عبد البر وحكاه عن العلماء ، وقوة كلامه تشعر بأنه إجماع منهم ، وقد تقدم أنه قول الشافعي أيضاً .
وحكى البرديجي : قولين في ثبوت السماع بمجرد اللقاء ، فإنه قال : (( قتادة حدث عن الزهري قال بعض أهل الحديث : لم يسمع منه ، وقال بعضهم : سمع منه لأنهما التقيا عند هشام بن عبد الملك ))
ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رحل إلى بلده ، ولا أن الشيخ قد إلى بلد كان الراوي عنه فيه .
نقل مهنا عن أحمد قال : (( لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري ، تميم بالشام وزرارة بصري ))
وقال أبو حاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء : (( [ لـ ] قد أدركه ، ولا أظنه سمع منه ، ذاك بالشام وهذا بالبصرة )) .
وقال ابن المديني : (( لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس ، كان الصحاك يكون بالبوادي )) .
وقال الدار قطني : (( لا يثبت سماع سعيد بن المسيب من أب الدرادء ، لأنهما لم يلتقيا )) . ومراده أنه لم يثبت التقاؤهما ، لا أنه ثبت انتفاؤه ، لأنه نفيه لم يرد في رواية قط .
فإن كان الثقة يروي عمن عاصره أحياناً – ولم يثبت لقيه له – ثم يدخل أحياناً بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه .
قال أحمد : (( البهي ما أراه سمع من عائشة ، إنما يروي عن عروة عن عائشة . قال : وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي قال : حدثتني عائشة .قال : وكان ابن مهدي سمعه من زائدة ، وكان يدع منه (( حدثتني عائشة ، ينكره )) .
وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد ، ويقول : هط خطأ ،يعني ذكر السماع :
قال في رواية هدبة عن حماد عن قتادة نا هلاد الجهني : (( هو خطأ ، خلاد قديم ، ما رأى قتادة خلاداً )) .
وذكروا لأحمد قول من قال : عن عراك بن مالك سمعت عائشة فقال : (( هذا خطأ )) وأنكره ، وقال : (( عراك من أين سمع من عائشة ؟ إنما يروي عن عروة عن عائشة )) .
وكذلك ذكر أبو حاتم الرازي : أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه ، فيظن أصحابه أنه سمعه ، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه ولا يضبطون ذلك وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور ، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد ، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شئ يذكر فيه الإخبار عن شيوخه ، ويكون منقطعاً .
وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أنا منصور بن زاذان ، قال أحمد : (( ولم يسمعه هشيم من منصور )) .
وقال أبو حاتم في يحيى بن أبي كثير : (( ما أراه سمع من عروة ابن الزبير لأنه يدخل بينه وبينه رجلاً ورجلين ، ولا يذكر سماعاً ولا رؤية ولا يؤاله عن مسألة )) .
وقال أحمد في رواية قتادة عن يحيى بن يعمر : (( لا أدري سمع منه أم لا ؟ قد روى عنه ، وقد روى عن رجل عنه )) .
وقال أيضاً : (( قتادة لم يسمع من سليمان بن يسار ، بينهما أبو الخليل ، ولم يسمع من مجاهد ، بينهما أبو الخليل )) .
وقال في سماع الزهري من عبد الرحمن بن أزهر : (( قد رآه – يعني ولم يسمع منه – قد أدخل بينه وبينه طلحة بن عبد الله ابن وهب )) .
ولم يصحح قول معمر وأسامه : (( عن الزهري سمعت عبد الرحمن ابن أزهر )) .
وقال أبو حاتم : (( الزهري لم يثبت له سماع من المسور ، يدخل بينه وبينه سليمان بن يسار وعروة بن الزبير )) .
وكلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم في هذا المعنى كثير جداً يطول الكتاب بذكره . وكله يدور على مجرد ثبوت الرؤية لا يكفي في ثبوت السماع ، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به ، وأن رواية من روى عمن عاصره تارة بواسطة وتارة بغير واسطة يدل على أنه لم يسمع منه ، إلا أن يثبت له السماع منه من وجه .
وكذلك رواية من هو في بلد عمن ببلد آخر ، ولم يثبت اجتماعهما ببلد واحد يدل على عدم السماع منه .
وكذلك كلام ابن المديني ، وأحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبرديجي ، وغيرهم في سماع الحسن من الصحابة كله يدور على هذا ، وأن الحسن لم يصح سماعه من أحد من الصحابة إلا بثبوت الرواية عنه أنه صرح بالسماع منه ونحو ذلك [ وإلا فهو مرسل ] .
فإذا كان هذا [ هو ] قول الأئمة الأعلام ، وأهم أعلم وأهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه ، ومع موافقة البخاري ، وغيره ، فكيف يصح لمسلم رحمه الله دعوى الإجماع على خلاف قولهم ؟! .
بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول ، أو القول بخلاف قولهم لا يعرف على أحد من نظرائهم ، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم . ويشهد لصحة ذلك حكاية أبي حاتم كما سبق اتفاق أهل الحديث على أن حبيب بن أبي ثابت لم السماع من عروة ، مع إدراكه له .
وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على مثل هذا القول لا على خلافه ، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن العلماء ، فلا يبعد حينئذ أن يقال : هذا هو قول الأئمة من المحدثين والفقهاء .
وأما إنكار مسلم أن يكون هذا قول شعبة أو من بعده فليس كذلك ، فقد أنكر شعبة سمع من روي سماعه ولكن لم يثبته ، كسماع مجاهد من عائشة ، وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان وابن مسعود .
وقال شعبة : (( أدرك أبو العالية علياً ولم يسمع منه )) . ومراده أه لم يرد سماعه منه ، ولم يكتف بإدراكه فإن أبا العالية سمع ممن هو أقدم موتاً ، فإنه قيل : إنه سمع من أبي بكر وعمر [ رضي الله عنهما ] .
وما ذكره مسلم من رواية عبد الله بن يزيد ومن سماه بعده – فالقول فيها كالقول في غيرها .
وقد قال أبو زرعة في روايات أبي أمامة بن سهل عن عمر : (( هي مرسلة )) مع أن له أيضاً رؤية .
فإن قال قائل : هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها !؟
قيل : من ههنا عظم ذلك على مسلم [ رحمه الله ] . والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله ، ويحتج به مع إمكان اللقي كما يحتج بمرسل أكابر التابعين كما نص عليه الإمام أحمد . وقد سبق ذكر ذلك في المرسل .
ويرد على ما ذكره مسلم أن يلزمه أن يحكم باتصال كل حديث رواه من ثبتت له رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . بل هذا أولى ، لأن هؤلاء ثبت لهم اللقي ، وهو يكتفي بمجرد إمكان السماع . ويلزمه أيضاً الحكم باتصال كل من عاصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً وإن لم يثبت سماعه منه ، ولا يكون حديثه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مرسلاً ، وهذا خلاف إجماه أئمة الحديث ، والله تعالى أعلم .
[
ثم إن بعض ما مثل به مسلم كما ذكره ، فقوله : (( إن عبد الله ابن يزيد وقيس بن أبي حازم رويا عن أبي مسعود ، وأن النعمان ابن أبي عياش روى عن أبي سعيد ، ولم يرد التصريح بسماعهم منهما )) ، ليس كما قال ، فإن مسلماً رحمه الله خرّج في صحيحه التصريح بسماع النعمان [ ابن أبي عياش ] من أبي سعيد في حديثين في صفة الجنة . وفي حديث : (( أنا أفرطكم على الحوض )) . وأما سماع عبد الله بن يزيد وقيس بن أبي [ حازن بن أبي ] مسعود فقد وقع مصرحاً به في صحيح البخاري والله أعلم ] .
ولهذا المعنى تجد في كلام شعبة ، ويحيى ، وأحمد ، وعلي ، ومن بعدهم ، التعليل بعدم السماع ، فيقولون : لم يسمع فلان عن فلان ، أو لم يصح له سماع منه ، ولا يقول أحد [ منـ ] هم قط : لم يعاصره وإذا قال بعضهم : لم يدركه ، فمرادهم الاستدلال على عدم السماع منه بعدم الإدراك .
فإن قيل : فقد قال أحمد في رواية مشيش وسئل عن أبي ريحانة سمع من سفينة ؟ قال : (( ينبغي ، هو قديم : قد سمع من ابن عمر )) ؟ قيل : لم يقل : إن حديثه عن سفينة صحيح متصل ، ، إنما قال : (( هو قديم ينبغي أن يكون سمع منه )) . وهذا تقريب لإمكان سماعه ، وليس في كلامه أكثر من هذا .
* * *
*
قول الراوي : قال فلان *
واعلم أن الراوي في روايته تارة يصرح بالسماع أو التحديث أو الإخبار ، وتارة يقول : (( عن )) ، ولا يصرح بشئ من ذلك ، وقد ذكرنا حكم هذا كله آنفاً ، وتارة يقول : قال فلان كذا ،
فهذا له ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون القائل لذلك ممن يعلم منه عدم التدليس : فتكون روايته مقبولة محتجاً بها ، كهمام ، وحماد بن زيد ، وشعبة ، وحجاج ابن محمد ، وغيرهم .
قال همام : (( ما قلت : قال قتادة فأنا سمعته من قتادة )) .
وقال حماد بن زيد : (( إني أكره إذا كنت لم أسمع من أيوب حديثاً أن أقول : قال أيوب كذا وكذا ، فيظن أني قد سمعته )) .
وقال شعبة : (( لأن أزني أحب إلىّ من أن أقول : قال فلان ، ولم أسمعه منه )) .
وكذلك حجاج بن محمد كان إذا قال : (( قال ابن جريج )) فقد سمعه منه )) .
والحال الثاني : أن يكون القائل لذلك معروفاً بالتدليس : فحكم قوله قال فلان ، حكم قوله : عن فلان ، كما سبق . وبعضهم كانت هذه عادته كابن جريج . قال أحمد : (( كل شئ قال ابن جريج : قال عطائ أو عن عطاء – فإنه لم يسمعه من عطاء )) . وقال أيضاً : (( إذا قال ابن إسحاق : وذكر فلان فلم يسمعه منه )) .
الحال الثالث : أن يكون حالاً مجهولاً . فهل يحمل على الاتصال أم لا ؟ قد ذكر الفقهاء من أًجابنا وأصحاب الشافعي خلافاً في الصحابي إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : هل يحمل على السماع أم لا ، وأن الأصح حمله على السماع .
وحكى ابن عبد البر عن الجمهور من العلماء أن من روى عمن صح له لقيه والسماع منه ، وقال : (( قال فلان )) حمل على الاتصال . بل كلامه يدل على أنه إجماع منهم . وذكر الإجماع على أن قول الصحابي : (( عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال )) وسمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) كله سواء . ولكن هذا قد يتبنى على أن مرسل الصحابي حجة .
* * *
*
الحديث المؤنن *
فأما قول الراوي : (( أن فلاناً قال )) فهل يحمل على الاتصال أم لا ؟ فهذا على قسمين :
أحدهما : أن يكون ذلك القول المحكي عن فلان أو الفعل المحكي عنه بالقول مما يمكن أن يكون الراوي قد شهده وسمعه منه ، فهذا حكمه حكم قول الراوي : (( قال فلان : كذا ، أو فعل فلان كذا )) ، على ما سبق ذكره .
والقسم الثاني : أن يكون ذلك القول المحكي عن المروي عنه أو الفعل مما لا يمكن أن يكون قد شهدا ، مثل أن لا يكون قد أدرك زمانه كقول عروة : (( إن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : كذا وكذا )) . فهل هو مرسل ، لعدم الإتيان بما يبين أنه رواه عن عائشة ؟ أم هو متصل ، لأن عروة قد عرف بالرواية عن عائشة ، فالظاهر أنه سمع ذلك منها ؟ .
هذا فيه خلاف :
قال أبو داود : سمعت أبا عبد الله – يعني أحمد – قال : (( كان مالك زعموا أن يرى عن فلان ، ,أن فلاناً سواء )) وذكر أحمد مثل حديث جابر أن سليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب . وعن جابر عن سليك أنه جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب .
قال : وسمعت أحمد قيل له : إن رجلاً قال : (( عن عروة قالت عائشة يا رسول الله . وعن عروة عن عائشة سواء )) . قال : (( كيف هذا سواء ؟ ليس هذا بسواء )) فذكر أحمد القسمين اللذين أشرنا إليهما .
فأما رواية جابر أن سليكاً جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب وروايته عن سليك أنه جاء والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب .
فهذا من القسم الأول ، لأنه يمكن أن يكون جابر شهد ذلك وحضره . ويمكن أن يكون رواه عن سليك .
ومثل هذا كثير في الحديث : مثل رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر كذا وكذا ، في أحاديث متعددة . وروي بعضها عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فمن رواه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر جعله من مسند ابن عمر ، ومن رواه عن ابن عمر عن عمر جعله من مسند عمر .
ولكن كان القدماء كثيراً ما يقولون عن فلان ويريدون الحكاية عن قصته ، والتحديث عن شأنه ، لا يقصدون الرواية عنه . وقد حكى الدار قطني عن موسى بن هارون الحافظ أن المتقدمين كانوا يفعلون ذلك ، وقد ذكرنا كلامه في كتاب الحج في باب الصيد للحرم .
وأما إذا روى الزهري مثلاً عن سعيد بن المسيب ثم قال مرة : إن سعيد بن المسيب قال ، فهذا محمول عن الرواية عنه دون الانقطاع ، ولعل هذا هو مراد مالك الذي حكاه أحمد عنه ولم يخالفه .
وقد حكى ابن عبد البر هذا القول عن جمهور العلماء ، وحكى عن البرديجي خلاف ذلك ، وأنه قال : (( هو محمول على الانقطاع ، إلا أن يعلم اتصاله من وجه آخر )) ، وقال : (( لا وجه لذلك )) . ولم يذكر لفظ البرديجي ، فلعله قال ذلك في القسم الثاني كما سنذكره .
وأما رواية عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وعروة أن عائشة قلت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا هو :
القسم الثاني : وهو الذي أنكر أحمد التسوية بينهما . والحفاظ كثيراً ما يذكرون مثل هذا ويعدووه اختلافاً في إرسال الحديث واتصاله ، وهو موجود كثيراً في كلام أحمد ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والدار قطني ، وغيرهم من الأئمة .
ومن الناس من يقول : هما سواء ، كما ذكر ذلك لأحمد . وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته ، كعروة مع عائشة . أما من لم يعرف له سماع منه فلا ينبغي أن يحمل على الاتصال ، ولا عند من يكتفي بإمكان اللقي .
والبخاري قد يخرج من هذا القسم في صحيحه ، كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قصة امرأة رفاعة . وقد ذكرنا في كتاب النكاح هذا على تقدير أن يكون عكرمة سمع من عائشة .
وقد ذكر الإسماعيلي في صحيحه أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين هاتين العبارتين .
وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم كانوا يتساهلون في ذلك مع قوله : إنهما ليسا سواء ، وإن حكمهما مختلف ، لكن كان يقع ذلك منهم أحياناً على وجه التسامح وعد التحرير .
قال – أحمد في رواية الأثرم في حديث سفيان عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حذافة في النهي عن صيام أيام التشريق : (( ومالك قال فيه : عن سليمان بن يسار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبد الله بن حذافة )) - .
قال أحمد : (( هو مرسل ، سليمان بن يسار لم يدرك عبد الله بن حذافة قال : وهو كانوا يتساهلون بين (( عن عبد الله بن حذافة )) وبين (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عبد الله بن حذافة )) .
قيل له : وحديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثه يخطب ميمونة ، وقال مطر : عن أبي رافع ؟ : قال : (( نعم ، وذاك أيضاً )) .
* * *
*
فصل في الحديث الحسن وما يتفرغ على شروطه *
وأما الحديث الحسن :
فقد بين الترمذي مراده بالحسن ، وهو : ما كان حسن الإسناد ، وفسّر حسن الإسناد بأن لا يكون في إسناده متهم بالكذب ، ولا يكون شاذاً ، ويروى من غير وجه نحوه . فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن .
وقد تقدم أن الرواة منهم من يتهم بالكذب ، ومنهم من يغلب على حديثه الوهم والغلط ، ومنهم الثقة الذي يقل غلطه ، ومنهم الثقة الذي يكثر غلطه .
فعلى ما ذكره الترمذي : كل ما كان في إسناده متهم فليس بحسن ، وما عداه فهو حسن بشرط أن يكون شاذاً والظاهر أنه أراد بالشاذ ما قاله الشافعي ، وهو أن يروي الثقات عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلافه وبشرط أن يروى نحوه من غيره وحه ، يعني أن يروى معنى ذلك الحديث من وجوه أخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بغير ذلك الإسناد .
فعلى هذا : الحديث الذي يريوه الثقة العدل ، ومن كثر غلطه ، ومن يغلب على حديثه الوهم ، إذا لم يكن أحد منهم متهماً كله حسن بشرط أن لا يكون شاذاً للأحاديث الصحيحة ، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة .
*
الاصطلاحات المركبة عند الترمذي *
فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ فالحديث حينئذ حسن صحيح ، وإن كان مع ذلك من رواية غيرهم من أهل الصدق الذين في حديثهم وهو غلط – إما كثيراً أو غالب عليهم – فهو حسن ، ولم لم يرو لفظه إلا من ذلك الوجه ، لأن المعتبر أن يروي معناه من غير وجه ، لا نفس لفظه .
وعلى هذا : فلا يشكل قوله : (( حديث حسن غريب )) ، ولا قوله : (( صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه )) ، لأن مراده أن هذا اللفظ لا يعرف إلا من هذا الوجه ، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه ، وإن كانت شواهده بغير لفظه .
وهذا كما في حديث (( الأعمال بالنيات )) ، فإن شواهده كثيرة جداً في السنة ، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال ، وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به ، وإن لم يكن لفظ حديث عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح .
وبمعنى هذا الذي ذكرناه فسر ابن الصلاح كلام الترمذي في معنى الحسن ، غير أنه زاد : (( ان لا يكون من رواية مغفل كثير الخطأ )) .
وهذا لا يدل عليه كلام الترمذي ، لأنه إنما اعتبر أن لا يكون راويه منهما فقط . لكن قد يؤخذ مما ذكره الترمذي قبل هذا : (( أن من كان مغفلاً كثير الخطأ لا يحتج بحديثه ، ولا يشتغل بالرواية عنه عند الأكثرين )) .
وقول الترمذي رحمه الله : (( يروى من غير وجه نحو ذلك )) [ و ] لم يقل : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيحتمل أن يكون مراده عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره وهو أن يكون معناه يروى من غير وجه ولو موقوفاً ، ليستدل بذلك على أن هذا المرفوع له أصل يعتضد به .
وهذا كما قال الشافعي في الحديث المرسل : (( إنه إذا عضده قول صحابي ، او عمل عامة أهل الفتوى به ، كان صحيحاً .
وعلى هذا التفسير الذي ذكرناه لكلام الترمذي أنما يكون الحديث صحيحاً حسناً إذا صح إسماده برواية الثقات العدول ، ولم يكن شاذاً ، وروي نحوه من غير وجه .
وأما الصحيح المجرد فلا يشترط فيه أن يروى نحوه من غير وجه ، لكن لا بد أن لا يكون أيضاً شاذاً [ - وهو ما روت الثقات خلافه ، على ما يقوله الشافعي والترمذي - ] ، فيكون حينئذ الصحيح الحسن أقوى من الصحيح المجرد .
وقد يقال : إن الترمذي إنما أراد بالحسن ما فسره به ههنا إذا ذكر الحسن مجرداً عن الصحة . فأما الحسن المقترن بالصحيح فلا يحتاج أن يروى نحوه من غيره وجه ، لأن صحته تغني عن اعتضاده بشواهد آخر . والله أعلم .
*
تحقيق قول الترمذي حسن صحيح *
وقد اضطرب الناس في جمع الترمذي بين الحسن والصحيح ، لأن الحسن دون الصحيح ، فكيف يجتمع الحسن والصحة ، وكذلك جمعه بين الحسن والغريب ، فإن الحسن عنده ما تعددت مخارجه ، والغريب ما لم يرو إلا من وجه واحد .
فمنهم من قال : إن مراده أن الحديث حسن والثقة رجاله وارتقى منالحسن إلى درجة الصحة ، لأن رواته في نهاية مراتب الثقة ، فحديثهم حسن [و] صحيح ، لجمعهم بين صفات من يحسن حديثه وصفات من يصحح حديثه . وعلى هذا فكل صحيح حسن ولا عكس ، ولهذا لا يكاد يفرد الصحة عن الحسن إلا نادراً .
*
تتمة في الحسن لذاته
والتوفيق بين تعاريف الحسن *
وعلى هذا التفسير فالحسن ما تقاصر عن درجة الصحيح ، لكون رجاله لم يبلغوا من الصدق والحفظ درجة رواة الصحيح ، وهم الطبقة الثانية من الثقات الذين ذكرهم مسلم في مقدمة كتابه ، وقيل إنه خرج حديثهم في المتابعات .
وهذا الحسن هو الذي أراده أبو داود بقوله : (( خرجت في كتابي الصحيح وما يشبهه وما يقاربه ))
وذكر ابن الصلاح أن تفسير الحسن بهذا المعنى هو قول الخطابي ، وليس هو قول الترمذي .
وذكر أن الحسن نوعان :
أحدهما : ما ذكره الترمذي : وهو أن يكون رواية غير متهم ، ولا مغفل كثير الخطأ ولا صاحب فسق ، ويكون متن الحديث قد اعتضد بشاهد آخر له ، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً ومنكراً .
والثاني : وهو قول الخطابي : أن يكون رواته من المشهورين بالصدق والأمانة غيرأنهم لم يبلغوا درجة رجال الصحيح لتقصيرهم عنهم في الاتقان والحفظ ، ولا يكون الحديث شاذاً ولا منكراً ولا معطلاً .
*
تكملة شرح الاصطلاحات المركبة عند الترمذي *
وذكر أن الترمذي إذا جمع بين الحسن والصحة فمراده أنه روي بإسنادين : أحدهما حسن ، والآخر صحيح . وهذا فيه نظر ، لأنه يقول كثيراً : (( حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه )) .
وقد أجاب عن ذلك بعض أكابر المتأخرين : بأنه قد يكون أصل الحديث غريباً ، ثم تتعدد طرقهعن بعض رواته ، إما التابعي أو من بعده ، فإن كانت تلك الطرق كلها صحيحة فهو صحيح غريب ، وإن كانت كلها حسنة فهو حسن غريب ، وإن كان بعضها صحيحاً وبعضها حسناً فهو صحيح حسن غريب ، إذا الحسن عند الترمذي ما تعددت طرقه ، وليس فيها متهم ، وليس شاذاً .
فإذا قال مع ذلك : (( إنه غريب لا يعرف إلا من ذلك الوجه )) حمل على أحد شيئين : إما أن تكون طرقه قد تعددت إلى أحد رواته الأصليين فيكون أصله غريباً ثم صار حسناً . وإما أن يكون إسناده غريباً بحيث لا يعرف بذلك الإسناد إلا من هذا الوجه ، ومتنه حسناً بحيث روي من وجهين وأكثركما يقول : وفي الباب عن فلان وفلان – فيكون لمعناه شواهد تبين أن متنه حسن ، وإن كان إسناده غريباً .
وفي بعض هذا نظر ، وهو بعيد من مراد الترمذي لمن تأمل كلامه .
ومن المتأخرين من قال : (( إن الحسن الصحيح عند الترمذي دون الصحيح المفرد ، فإذا قال : صحيح فقد جزم بصحته ، وإذا قال : حسن صحيح فمراده أنه جمع طرفاً من الصحة وطرفاً من الحسن ، وليس بصحيح محض ، بل حسن مشوب بصحة ، كما يقاتل في المز : إنه حلو حامض ، باعتبار أن فيه حلاوة وحموضة )) .
وهذا بعيد جداً ، فإن الترمذي يجمع بين الحسن والصحة في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها ، والتي أسانيدها في أعلى درجة الصحة ، كمالك عن نافع عن ابن عمر ، والزهري عن سالم عن أبيه ، ولا يكاد الترمذي يفرد الصحة إلا نادراً ، وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوى مما جمع فيه بين الصحة والحسن .
ومن المتأخرين أيضاً من قال : مراد الترمذي بالحسن أن كلاً من الأوصاف الثلاثة التي ذكرها في الحسن – وهي سلامة الإسناد من المتهم ، وسلامته من الشذوذ ، وتعدد طرقه ولو كانت واهية – موجب لحسن الحديث عنده .
وهذا بعيد جداً ! وكلام الترمذي إنما يدل على أنه لا يكون حسناً جتى يجتمع فيه الأوصاف الثلاثة ، وتسمية الحديث الواهي الذي تعددن طرقه حسناً ، لا أعلمه وقع في كلام الترمذي في شئ من أحاديث كتابه .
*
فصل في شرط الترمذي وأنواع الحديث *
من حيث تفرد الراوي به
واعلم أن الترمذي رحمه الله خرج في كتابه الحديث الصحيح والحديث الحسن – وهو ما نزل عن درجة الصحيح وكان فيه بعض ضعف – والحدي الغريب ، كما سيأتي .
والغرائب التي خرجها فيها بعض المناكير – ولا سيما في كتاب الفضائل – ولكنه يبينذلك غالباً ولا يسكت عنه ، ولا أعلمه خرج عن متهم بالكذب متفق على اتهامه حديثاً بإسناد منفرد ، إلا أنه قد يخرج حديثاً مروياً من طرق ، أو مختلفاً في إسناده ، وفي بعض طرقه متهم ، وعلى هذا الوجه خرج حديث محمد بن سعيد المصلوب ، ومحمد بن السائب الكلبي .
نعم قد يخرج عن سئ الحفظ ، وعمن غلب على حديثه الوهم ، ويبين ذلك غالباً ولا يسكت عنه ، وقد شاركه أبو داود في التخريج عن كثير من هذه الطبقة ، مع السكوت على حديثهم ، كإسحاق بن أبي فروة وغيره .
وقد قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة : (( ليس في كتاب السنن الذي صنفته عن رجل متروك شئ ، وإذا كان فيه حديث منكر بيبنت أنه منكر )) .
ومراده أن لم يخرج لتروك الحديث عنده ، على ما ظهر له ، أو لمتروك متفق على تركه ، فإنه قد خرج لمن [ قد ] قيل : إنه متروك ، ومن [ قد ] قيل : إنه متهم بالكذب ، وقد كان أحمد ابن صالح المصري وغيره ، لا يتركون إلا حديث من اجتمع على ترك حيدثه ، وحكي مثله عن النسائي .
والترمذي رحمه الله يخرج حديث الثقة الضابط ، ومن يهم قليلاً ، ومن يهم كثيراً ، ومن يغلب عليه الوهم يخرج حديثه نادراً ، ويبين ذلك ولا يسكت عنه .
وقد خرج حديث كثير بن عبد الله المزني ولم يجمع على ترك حديثه بل قد قواه قوم ، وقدم بعضهم حديثه على مرسل ابن المسيب ، وقد ذكرنا ذلك في مواضع .
وقد حكى الترمذي في العلل عن البخاري : أنه قال في حديثه في تكبير العيدين : (( هو أصح حديث في هذا الباب ، قال : وأنا أذهب إليه )) .
وأبو داود : قريب من الترمذي في هذا بل هو أشد انتقاداً للرجال منه .
وأما النسائي : فشرطه أشد من ذلك ، ولا يكاد يخرج لمن يغلب عليه الوهم ، ولا لمن فحش خطؤه وكثر .
وأما مسلم : فلا يخرج إلا حديث الثقة الضابط ، ومن في حفظه بعض الشئ وتكلم فيه لحفظه ، يكنه يتحرى في التخريج عنه ولا يخرج عنه إلا ما لا يقال : إنه مما وهم فيه .
وأما البخاري : فشرطه أشد من ذلك ، وهو أنه لا يخرج إلا للثقة الضابط ولمن ندر وهمه ، وإن كان قد اعترض عليه في بعض من خرج عنه .
*
فائدة هامة في أمثلة لطبقات الرواة عن الحفاظ *
ونذكر لذلك مثالاً ، وهو أن :
أصحاب الزهري خمس طبقات :
الطبقة الأولى : جمعت الحفظ والاتقان وطول الصحبة للزهري ، والعلم بحديثه والضبط له ، كمالك ، وابن عيينة ، وعبيد الله بن عمر ، ومعمر ، ويونس ، وعقيل ، وشعيب ، وغيرهم ، وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري .
الطبقة الثانية : أهل حفظ وإتقان ، لكن لم تطل صحبتهم للزهري وإنما صحبوه مدة يسيرة ولم يمارسوا حديثه ، وهم في إتقانه دون الطبقة الأولى ، كالأوزاعي ، والليث ، وعبد الرحمن بن مسافر ، والنعمان بن راشد ، ونحوهم ، وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري .
الطبقة الثالثة : قوم لازموا الزهري وصحيوه ورووا عنه ، ولكن تكلم في حفظهم ، كسفيان بن حسين ، ومحمد بن إسحاق ، وصالح بن أبي الأخضر ، وزمعة بن صالح ، ونحوهم ، وهؤلاء يخرج لهم أبو داود والترمذي والنسائي ، وقد يخرج مسلم لبعضهم متابعة .
الطبقة الرابعة : قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة ، ومع ذلك تكلم فيهم ، مثا إسحاق بن يحيى الكلبي ، ومعاوية بن يحيى الصدفي ، وإسحاق بن أبي فروة ، وإبراهيم بن يزيد المكي ، والمثنى بن الصباح ، ونحوهم ، وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم .
الطبقة الخامسة : قوم من المتروكين والمجهولين كالحكم الأيلي ، وعبد القدوس بن حبيب ، ومحمد بن سعيد المصلوب ، وبحر السقاء ، ونحوهم ، فلم يخرج لهم الترمذي ، ولا أبو داود ، ولا النسائي . ويخرج لبعضهم ابن ماجه ، ومن هنا نزلت درجة كتابة عن بقية الكتب ، ولم يعده من الكتب المعتبرة سوى طائفة من المتأخرين .
أصحاب نافع : قسمهم ابن المديني تسع طبقات :
الطبقة الأولى : أيوب ، وعبيد الله بن عمر ، ومالك ، وعمر ابن نافع ، قال : (( فهؤلاء أثبت أصحابه ، وأثبتهم عندي أيوب )) . قال : وسمعت يحيى يقول : (( ليس ابن جريج بدونهم فيما سمع من نافع )) .
الطبقة الثانية : عبد الله بن عون ، ويحيى الأنصاري ، وابن جريج .
الطبقة الثالثة : أيوب بن موسى ، وإسماعيل بن أمية ، وسليمان ابن موسى ، وسعد بن إبراهيم .
الطبقة الرابعة : موسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق ، وداود بن الحصين .
الطبقة الخامسة : محمد بن عجلان ، والضحاك بن عثمان ، وأسامه ابن زيد الليثي ، وكالك بن مغول .
الطبقة السادسة : ليث بن سعد ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وسليمان بن مساحق ، وابن عنج المصري .
الطبقة السابعة : عبد الرحمن السراج ، وسعيد بن عبد الله ابن حرب ، وسلمة بن علقمة ، وعلي بن الحكم ، والوليد بن أبي هشام .
الطبقة الثامنة : أبو بكر بن نافع ، وخليفة بن غلاب ، ويونس بن يزيد ، وجويرية بن أسماء ، وعبد العزيز بن أبي رواد ، ومحمد بن ثابت العبدي ، وأبو علقمة الفروي ، وعطاف ابن خالد ، وعبد الله بن عمر ، وحجاج بن أرطأة ، وأشعث بن سوار ، وثور بن يزيد .
وطبقة تاسعة لا يكتب عنهم : عبد الله بن نافع ، وأبو أمية اين يعلى ، وعثمان البري ، وعمر بن قيس سندل . انتهى .
وقد خولف في بعض هذا الترتيب ، فمن ذلك تقديم سليمان بن موسى بن عقبة ، والليث والضحاك بن عثمان ومالك بن مغول وجويرية ، ويونس .
وجديث جويرية والليث بن سعد عن نافع مخرج في الصحيحين . وسليمان بن موسى قد تكلم فيه غير واحد ولم يخرجا له شيئاً .
وقد قسم النسائي أصحاب نافع تسع طبقات أيضاً ، وخالف ابن المديني في بعض ما ذكره ، ووافقه في بعضه .
فوافقه في ذكر الطبقة الأولى .
وزاد في الطبقة الثانية : صالح بن كيسان .
وزاد في الثالثة : موسى بن عقبة ، وكثير من فرقد ، وأسقط منها سعد بن إبراهيم [ وسليمان بن موسى ] .
وذكر : الطبقة الرابعة : الليث بن سعد ، وجويرية بن أسماء بن أسماء ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، ويونس بن يزيد ، لم يذكرهم غيرهم .
وزاد في الخامسة : ابن أبي ذئب ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وابن عنج ، وأسقط ذكر أسامه وابن مغول .
وذكر الطبقة السادسة : سليمان بن موسى ، وبُرد بن سنان ، وهشام بن الغاز ، وابن أبي روّاد .
وزاد في السابعة : عبيد الله بن الأخنس ، وأسقط منها سعيداً وعلي بن الحكم .
وقال : الطبقة الثامنة : عمر بن محمد بن زيد ، وأسامه بن زيد ، ومحمد بن إسحاق ، وصخر بن جويرية ، وهمام بن يحيى ، وهشام بن سعد .
قال : والتاسعة : الضعفاء : عبد الكريم أبو أمية ، وليث بن أبي سليم ، وحجاج بن أرطأة ، وأشعث بن سوار ، وعبد الله ابن عمر .
وذكر طبقة عاشرة : وقال : هم المتروك حديثهم : إسحاق بن أبي فروة ، وعبد الله بن نافع ، وعمر بن قيس ، ونجيح أبو معشر ، وعثمان البري ، وأبو أمية بن يعلى ، ومحمد بن عبد الرحمن بن مجبر ، وعبد العزيز بن عبيد الله .
أصحاب الأعمش : قال النسائي : هم سبع طبقات :
الأولى : يحيى القطان، والثوري ، وشعبة .
الثانية : زائدة ، وابن أبي زائدة ، وحفص بن غياث .
الثالثة : أبو معاوية ، وجرير بن عبد الحميد ، وأبو عاونة .
الرابعة : قطبة بن عبد العزيز ، ومفضل بن مهلهل ، وداود الطائي ، وفضيل بن عياض ، وابن المبارك
الخامسة : ابن إدريس ، وعيسى بن يونس ، ووكيع ، وحميد الرواسي ، وعبد الله بن داود ، والفضل بن موسى ، وزهير بن معاوية .
السادسة : أبو أسامه ، وابن نمير ، وعبد الواحد بن زياد .
السابعة : عبيدة بن حميد ، وعبدة بن سليمان .
* * *
*
فصل في الحديث الغريب وأنواع الحديث *
من حيث تفرد الراوي فيه
وأما الحديث الغريب : فهو ضد المشهور .
وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث ويذمون الغريب منه في الجملة :
ومنه قول ابن المبارك : (( العلم هو الذي يجنيك من ههنا ومن ههنا )) يعني المشهور . خرجه البيهقي من طريق الترمذي عن أحمد ابن عبدة عن أبي وهب عنه .
وخرج أيضاً من طريق الزهري عن علي بن حسين قال : (( ليس من العلم ما لا يعرف ، إنما العلم ما عرف وتواطأت عليه الألسن )) .
وبإسناده عن مالك قال : (( شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس )) .
وروى محمد بن جابر عن الأعمش عن إبراهيم قال : (( كانوا يكرهون غريب الحديث ، وغريب الكلام )) .
وعن أبي يوسف قال : (( من طلب غرائب الحديث كُذب )) .
وقال أبو نعيم : (( كان عندنا رجل يصلي كل يوم خمسمائى ركعة ، سقط حديثه من الغرائب )) .
وقال عمرو بن خالد سمعت زهير بن معاوية يقول لعيسى ابن يونس : (( ينبغي للرجل أن يتوقى رواية غريب الحديث فإني أعرف رجلاً كان يصلي في اليوم نتي ركعة ما أفسده عن الناس إلا رواية غريب الحديث )) .
وذكر مسلم في مقدمة كتابه من طريق حماد بن زيد أن أيوب قال لرجل : (( لزمت عمراً ؟ قا ل: نعم ، إنه يجيئنا بأشياء غرائب !! قال : يقول له أيوب : إنما نفر أن نفرق من تلك الغرائب )) .
وقال لرجل لخالد بن الحارث : (( أخرج لي حديث الأشعث لعلي أجد فيه شيئاً غريباً )) . فقال : (( لو كان فيه شئ غريب لمحوته )) .
ونقل علي بن عثمان النفيلي عن أحمد قال : (( شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها )) .
وقال المروذي سمعت أحمد يقول : (( تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ، ما أقل الفقه فيهم ؟! ))
ونقل محمد بن سهل بن عسكر عن أحمد قال : (( إذا سمعت أصحاب الحديث يقولون : هذا الحديث غريب أو فائدة ، فاعلم أنه خطأ أو دخل حديث في حديث ، أو خطأ من المحدث ، أو ليس له إسناد ، وإن كان قد روى شعبة ، وسفيان . وإذا سمعتم يقولون : لا شئ فاعلم أنه حديث صحيح )) .
وقال أحمد بن يحيى سمعت أحمد غير مرة يقول : (( لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء )) .
قال أبو بكر الخطيب : (( أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب عليهم كتب الغريب دون المشهور ، وسماع المنكر دون المعروف ، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من رواية المجروحين والضعفاء ، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتباً ، والثابت مصدوفاً عنه مطرحاً ، وذلك لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم ، ونقصان علمهم بالتمييز ، وزهدهم في تعلمه ، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة المحدثين ، والأعلام من أٍلافنا الماضين )) .
وهذا الذي ذكره الخطيب حق ،ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب والسنة ونحوها ، ويعتني بالأجزاء الغريبة وبمثل مسند البزار ، ومعاجم الطبراني ، أو أفراد الدار قطني ، وهي مجمع الغرائب والمناكير .
ومن جملة الغرائب المنكرة الأحاديث الشاذة المطرحة
وهي نوعان :
ما هو شاذ الإسناد : وسيذكر الترمذي فيما بعد بعض أمثلته .
وما هو شاذ المتن : كالأحاديث التي صحت الأحاديث بخلافها ، أو أجمعت أئمة العلماء على القول بغيرها .
وهذا كما قاله أحمد – في حديث أسماء بنت عميس : (( تسلبي ثلاثاً ثم اصنعي ما بدا لك )) - : (( إنه من الشاذ المطرح )) . مع أنه قد قال به شذوذ من العلماء : إن المتوفى عنها زوجها لا إحداد عليها بالكلية ، كما سبق ذكره في موضعه .
وكذلك حديث طاووس عن ابن عباس في الطلاث الثلاث ، وقد تقدم في كتاب الطلاق كلام أحمد وغيره من الأئمة فيه وأنه شاذ مطرّح .
قال إبراهيم بن أبي عبلة : (( من حمل شاذ العلماء حمل شراًَ كثيراً )) . وقال معاوية بن قرة : (( إياك والشاذ من العلم )) .
وقال شعبة : (( لا يجينك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ )) .
قال صالح بن محمد الحافظ : (( الشاذ الحديث المنكر الذي لا يُعرف )) . وقد تقدم قول ابن مهدي : (( لا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم )) .
وقد اعتُرض على الترمذي رحمه الله :
بأنه في غالب الأبواب يبدأ بالأحاديث الغريبة الإسناد غالباً ؟ وليس ذلك بعيب ، فإنه رحمه الله يبين ما فيها من العلل ، ثم يبين الصحيح من الإسناد ، وكان قصده رحمه الله ذكر العلل ، ولهذا تجد النسائي إذا استوعب طرق الحديث بدأ بما غلط ، ثم يذكر بعد ذلك الصواب المخالف له .
*
خطة أبي داود في سننه : *
وأما أبو داود رحمه الله فكانت عنايته بالمتون أكثر :
ولهذا يذكر الطرق واختلاف ألفاظها ، والزيادات المذكورة في بعضها دون بعض ، فكانت بفقه الحديث أكثر من عنايته بالأسانيد ، فلهذا يبدأ بالصحيح من الأسانيد ، وربما لم يذكر الإسناد المعلل بالكلية .
ولهذا قال في رسالته إلى أهل مكة : (( سألتم أن أذكر لكم الأحاديث التي في كتاب السنن أهي أصح ما عرفت في الباب ؟
فاعلموا أنه كذلك ، إلا أن يكون قد روي منوجهين صحيحين ، وأحدهما أقوى إسناداً ، والآخر صاحبه أقدم في الحفظ ، فربما كتبت ذلك ، ولا أرى في كتابي من هذا عشرة أحاديث ، ولم أكتب في البا إلا حديثاً أو حديثين ، وإن كان في الباب أحاديث صحاح ، فإنه يكثر )) .
((
وإذا اعدت الحديث في الباب من وجهين أو ثلاثة فإنما هو من زيادة كلام فيه ، وربما فيه كلمة زائدة على الأحاديث ، وربما اختصرت الحديث الطويل ، لأني لو كتبته بطوله لم يعلم بعض من سمعه ، ولا يفهم موضع الفقه منه ، فاختصرته لذلك )) .
إلى أن قال : (( وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته ومنه مالا يصح مسنداً ، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح ، وبعضها أصح من بعض )) .
إلى أن قال : (( والأحاديث التي وضعتها في كتاب السنن أكثرها مشاهير ، وهو عند كل من كتب شيئاً من الأحاديث ، إلا أن تمييزها لا يقدر عليه كل الناس ، والفخر بها أنه مشاهير ، فإنه لا يحتج بحديث غريب ، ولو كان من رواية مالك ويحيى بن سعيد والثقات من أئمة العلم )) .
((
ولو احتج بحديث غريب وجدت من يطعن فيه ، ولا يحتج بالحديث الذي قد احتج به إذا كان غريباً شاذاً .
((
فأما الحديث المشهور المتصل الصحيح فليس يقدر أن يرده علينا أحد )) .
وقال إبراهيم النخعي : (( كانوا يكرهون الغريب من الحديث )) .
وقال يزيد بن أبي حبيب : إذا سمعت الحديث فانشده ، كما تنشد الضالة ، فإن عرف وإلا فدعه )) . وذكر بقية الرسالة .
وخرج البيهقي بإسناده عن ابن وهب قال : (( لولا مالك بن أنس والليث بن سعد لهلكت ، كنت أظن أن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعمل له )) .
وقال ابن أبي خيثمة ثنا ابن الأصبهاني ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن إبراهيم قا ل: (( إني لأسمع الحديث فآخذ منه ما يؤخذ به ، وأده سائره )) .
*
الغريب سنداً ومتناً عند الترمذي : *
ثم لنرجع إلى ما ذكره الترمذي رحمه الله فنقول :
ذكر الترمذي رحمه الله : (( إن الغريب عند أهل الحديث يطلق بمعان : أحدها : أن يكون الحديث لا يروى إلا من وجه واحد )) .
ثم مثله بمثالين ، وهما في الحقيقة نوعان :
أحدهما : أن يكون ذلك الإسناد لا يروى به إلا ذلك الحديث أيضاً .
وهذا مثل حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الذكاة .
فهذا حديث غريب ، لا يُعرف إلا من حديث حماد بن سلمة عن أبي العشراء ثم اشتهر عن حماد ، ورواه عن خلق ، فهو في أصل إسناده غريب ، ثم صار مشهوراً عن حماد .
قال الترمذي : (( ولا يُعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث )) .
وقد خرّج الترمذي في كتاب الصيد والذبائح هذا الحديث وقال : (( غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ، ولا يعرف لأبي العشراء عن أبيه غيره )) .
ولم يقل : أنه لما ذكر ههنا أن شرطه في الحسن أن يروى نحوه من غير وجه ، وهذا ليس كذلك ، فإنه لم يرو في الذكاة في غير الخلق واللبة إلا في حال الضرورة غيره .
وحكى أيضاً في كتاب العلل عن البخاري أنه قال : (( لا نعرف لأبي العشراء شيئاً غير هذا )) .
وقد ذكرنا هناك أن بعضهم ذكر لحماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه نحو عشرة أحاديث ، لكن كل أسانيدها إلى حماد ضعيفة لا يكاد يصح منها شئ عنه ، ووهن أحمد حديث أبي العشراء في الذكاة أيضاً .
النوع الثاني : أن يكون الإسناد مشهوراً يروى به أحاديث كثيرة ، لكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا الإسناد .
ومثله الترمذي بحديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النهي عن بيع الولاء وهبته ، فإنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا من هذا الوجه ، ومن رواه من غيره فقد وهم وغلط .
وقد خرجه الترمذي في كتاب البيوع . وسبق الكلام عليه هناك مستوفى ، وهو معدود من غرائب الصحيح ، فإن الشيخين خرجاه ، ومع هذا فتكلم الإمام أحمد ، وقال : (( لم يتابع عبد الله بن دينار عليه )) ، وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الولاء لمن أعتق )) . لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته .
قلت : وروى نافع عن ابن عمر من قوله النهي عن بيع الولاء وعن هبته ، غير مرفوع ، وهذا مما يعلل به حديث عبد الله ابن دينار . والله أعلم .
ومن غرائب الصحيح أيضاً حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إنما الأعمال بالنيات .. )) الحديث . وقد خرجه الترمذي في الجهاد ، وسبق الكلام عليه هناك مستوفى ، فإنه لم يصح إ من حديث يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاس عن عمر .
ومنها [ أيضاً ] حديث أنس (( دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة وعلى رأسه المغفر ، فإنه لم يصح إلا من حديث مالك عن ابن شهاب عن أنس ، وقد سبق ذكره في الجهاد أيضاً ، وأمثلة ذلك كثيرة .
*
زيادات الثقات وتحقيق حكمها *
قال أبو عيسى رحمه الله : (( ورب حديث إنما استغرب لزيادة تكون في الحديث ،وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .
مثل ما روى مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : (( فرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد أذكر أو أنثى من المسلمين صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير )) .
فزاد مالك في هذا الحديث (( من المسلمين )) .
وروى أيوب السختياني ، وعبيد الله بن عمر ، ولم يذكر فيه (( من المسلمين )) .
وقد روى بعضهم عن نافع مثل رواية مالك ممن لا يعتمد على حفظه .
وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك ، واحتجوا به ، منهم الشافعي وأحمد بن حنبل قالا : إذا كان الرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر [ عنهم ] ، واحتجا بحديث مالك . فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظه قبل ذلك عنه ) .
هذا أيضاً نوع من الغريب ، وهو أن يكون الحديث في نفسه مشهوراً لكن يزيد بعض الرواة في متنه زيادة تستغرب .
وقد ذكر الترمذي : أن الزيادة إن كانت من حافظ يعتمد على حفظه فإنها تقبل ، يعني وإن كان الذي زاد ثقة لا يعتمد على حفظه لا تقبل زيادته .
وهذا أيضاً ظاهر كلام الإمام أحمد ، قال في رواية صالح : (( قد أنكر على مالك هذا الحديث – يعني زيادته من المسلمين – ومالك إذا انفرد بحديث هو ثقة ، وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه )) . يعني في الحديث .
فذكر أحمد أن مالكاً يقبل تفرده ، وعلل بزيادته في الثبت على غيره ، وبأنه قد توبع على هذه الزيادة – وقد ذكرنا هذه الزيادة ومن تابع مالكاً عليها في كتاب الزكاة – ولا يخرج بالمتابعة عن أن يكون زيادة من بعض الرواة ، لأن عامة أصحاب نافع لم يذكروها .
و [قد] قال أحمد في رواية عنه : (( كنت أتهيب حديث مالك : (( من المسلمين )) . يعني حتى وجده من حديث العمرين . قيل له : (( أفمحفوظ هو عندك (( من المسلمين )) ؟ قال نعم )) .
وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات ، ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة ، وتدل على أن متابعة مثل العمري لمالك مما يقوي رواية مالك ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار .
وسيأتي فيما بعد إن شاء الله عن يحيى القطان نحو ذلك أيضاً .
وكلام الترمذي هنا يدل على خلاف ذلك ، وأن العبرة برواية مالك ، وأنه لا عبرة بمن تابعه ممن لا يعتمد على حفظه .
وفي حديث ابن عمر في صدقة الفطر زيادات أخر لا تثبت ، منه ذكر القمح ، وكذلك في حديث أبي سعيد في صطقة الفطر زيادات وقد ذكرنا ذلك كله مستوفى في كتاب الزكاة .
وقال أحمد أيضاً – في حديث أبي فضيل عن الأعمش عن عمارة بن بن عمير عن أبي عطية عن عائشة في تلبية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكر فيها : (( والملك لك ، لا شريك لك )) – قال أحمد : (( وهم ابن فضيل في هذه الزيادة ، ولا تعرف هذه عن عائشة ، إنما تعرف عن ابن عمر )) . وذكر أن أبا معاوية روى الحديث عن الأعمش بدونها ، وخرجه البخاري بدونها أيضاً من طريق الثوري عن الأعمش ، وقال : (( تابعه أبو معاوية )) .
قال الخلال : (( أبو عبد الله لا يعبأ بمن خالف أبا معاوية في الأعمش ، إلا أن يكون الثوري )) ، وذكر أن هذه الزيادة رواها ابن نمير وغيره أيضاً عن الأعمش .
وكذلك قال أحمد في رواية الميموني : (( حديث أبي هريرة في الاستسعاء يرويه ابن أبي عروبة ، وأما شعبة وهمام فلم يذكراه ، ولا أذهب إلى الاستسعاء )) .
فالذي يدل عليه كلاك الإمام أحمد في هذا الباب أن زيادة الثقة للفظه في حديث من بين الثقات إن لم يكن مبرزاً في الحفظ والتثبت على غيره ممن لم يذكر الزيادة ولم يتابع عليها فلا يقبل تفرده .
وإن كان ثقة مبرزاً في الحفظ على من لم يذكرها ففيه عنه روايتان : لأنه قال مرة في زيادة مالك (( من المسلمين )) : (( كنت أتهيبه حتى وجدته من حديث العمرين )) .
وقال – في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر المرفوع : (( من حلف فقال : إن شاء الله فلا حنث عليه )) - : (( خالفه الناس : عبيد الله وغيره فوقفوه )) .
وأما أصحابنا الفقهاء فذكروا في كتب أصول الفقه في هذه المسألة روايتين عن أحمد : بالقبول مطلقاً ، وعدمه مطلقاً ، ولم يذكروا نصاً له بالقبول مطلقاً ، مع أنهم رجحوا هذا القول ، ولم يذكروا به نصاً عن أحمد ، وإنما اعتمدوا على كلام له لا يدل على ذلك ، مثل قوله في فوات الحج : (( جاء فيه روايتان : إحداهما فيه زيادة دم . قال : والزائد أولى أن يؤخذ به )) .
وهذا ليس مما نحن فيه فإن مراده أن الصحابة روي عن بعضهم فيمن يفوته الحج أن عليه القضاء ، وعن بعضهم : أن عليه القضاء مع الدم ، فأخذ بقول من زاد الدم ، فإذا روي حديثان مستقلان في حادثة في أحدهما زيادة فإنها تقبل من الثقة ، كما لو انفرد الثقة بأصل الحديث .
وليس هذا من باب زيادة الثقة ، [ ولا سيما إذا كان الحديثان موقوفين عن صحابيين ] وإنما قد يكون أحياناً من باب المطلق والمقيد .
وأما مسألة زيادة الثقة التي نتكلم فيها هاهنا فصورتها أن يروي جماعة حديثاً واحداً بإسناد واحد ومتن واحد ، فيزيد بعض الرواة فيه زيادة لم يذكرها بقية الرواة .
ومن الأصحاب من قال في هذه المسألة : (( إن تعدد المجلس الذي نقل فيه الحديث قبلت الزيادة ، وإن كان المجلس واحداً وكان الذي ترك الزيادة جماعة لا يجوز عليهم الوهم لم تقبل الزيادة ، وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قبلت ، وإن كان رواي الزيادة واحداً والنقصان واحداً قد أشهرهما [ وأوثقهما ] في الحفظ والضبط )) .
قالوا : وإن خالفت الزيادة ظاهر المزيد عليه لم تقبل )) . وحملوا كلام أحمد في حديث السعاية على ذلك ، وليس في كلام أحمد تعرض لشئ من هذا التفصيل ، وإنما يدل كلامه [ على ] ما ذكرناه أولاً
وأما الفرق بين أن يكون المجلس متحداً أو متعدداً فإنه مأخوذ مما ذكره بعضهم في حديث أبي موسى في النكاح بلا ولي ، فإن شعبة وسفيان أرسلاه عن أبي إسحاق عن أبي بردة ، وإسرائيل وصله ، ويقال : إن سماع شعبة وسفيان كان واحداً ، والذين وصلوه جماعة ، فالظاهر أنهم سمعوه في مجالس متعددة .
وقد أشار الترمذي إلى هذا في كتاب النكاح ، كما تقدم .
وحكى أصحابنا الفقهاء عن أكثر الفقهاء والمتكلمين قبول الزيادة إذا كانت من ثقة ولم تخالف المزيد ، وهو قول الشافعي ، وعن أبي حنيفة أنها لا تقبل ، وعن أصحاب مالك في ذلك وجهين .
ولا فرق في الزيادة بين الإسناد والمتن كما ذكرنا في حديث النكاح بلا ولي .
*
الزيادة في المسند والمزيد في متصل الأسانيد *
وقد تكرر في هذا الكتاب ذكر الاختلاف في الوصل والإرسال ، والوقف والرفع ، وكلام أحمد وغيره من الحفاظ يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضاً .
وقد قال أحمد في حديث أسنده حماد بن سلمة : (( أي شئ ينفع وغيره يرسله )) .
وذكر الحاكم أن أئمة الحديث على أن القول قول الأكثرين الذين أرسلوا الحديث ، وهذا يخالف تصرفه في المستدرك .
وقد صنف في ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب مصنفاً حسناً سماه (( تمييز المزيد في متصل الأسانيد )) ، وقسمه قسمين :
أحدهما : ما حكم فيه بصحة ذكر الزيادة في الإسناد وتركها .
والثاني : ما حكم فيه برد الزيادة وعدم قبولها .
ثم إن الخطيب تناقض ، فذكر في كتاب الكفاية للناس مذاهب في اختلاف الرواة في إرسال الحديث ووصله ، كلها لا تعرف عن أحد من متقدمي الحفاظ ، إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين .
ثم إنه اختار الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء ، وهذا يخالف تصرفه في كتاب تمييز المزيد ، وقد عاب تصرفه في كتاب تمييز المزيد بعض محدثي الفقهاء ، وطمع فيه لموافقته لهم في كتاب الكفاية .
وذكر في الكفاية حكاية عن البخاري : أنه سئل عن حديث أبي إسحاق في النكاح بلا ولي ؟ قال : الزيادة من الثقة مقبولة ، وإسرائيل ثقة .
وهذه الحكاية – إن صحت – فإنما مراده الزيادة في هذا الحديث ، وإلا فمن تأمل كتاب تاريخ البخاري تبين له قطعاً أنه لم يكن يرى أن زيادة كل ثقة في الإسناد مقبولة .
وهكذا الدار قطني ، يذكر في بعض المواضع أن الزيادة من الثقة مقبولة ثم يرد في أكثر المواضع زيادات كثيرة من الثقات ، ويرجح الإرسال على الإسناد ، فدل على أن مرادهم زيادة الثقة في مثل تلك المواضع الخاصة : وهي إذا كان الثقةة مبرزاً في الحفظ .
وقال الدار قطني في حديث زاد في إسناده رجلان ثقتان رجلاً ، وخالفهما الثوري فلم يذكره قال : (( لولا أن الثوري خالف لكان القول قول من زاد فيه ، لأن زيادة الثقة مقبولة )) . وهذا تصريح بأنه إنما يقبل زيادة الثقة إذا لم يخالفه من هو أحفظ منه .
وأما الزيادة في المتون وألفاظ الحديث :
بأبو داود رحمه الله في كتاب السنن أكثر الناس اعتناء بذلك ، وهو مما يعتني به محدثوا الفقهاء .
قال الحاكم : (( هذا مما يعز وجوده ، ويقل في أهل الصنعة من يحفظه ، وقد كان أبو بكر بن زياد النيسابوري الفقيه ببغداد يذكر بذلك ، وأبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الجرجاني بخراسان ، وبعدهما شيخنا أبو الوليد يعني حسان بن محمد القرشي )) .
وذكر الحاكم لذلك أمثلة :
منها : حديث [ الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشيباني عن ] ابن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي أفضل ؟ قال : (( الصلاة لأول وقتها )) . وقال : (( هذه الزيادة لم يذكرها غير بندار والحسن بن مكرم ، وهما ثقتان عن عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد عن أبي عمرو الشيباني .
وقال الدار قطني : (( ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن زياد كان يعرف زيادات الألفاظ في المتون )) .
قال : (( وكنا في مجلس فيه أبو طال والجعابي وغيرهما فجاء فقيه فسأل : من روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( وجعل تربتها طهوراً )) ؟ فلم يجيبوه ، ثم قاموا وسألوا أبا بكر بن زياد ؟ فقال : نعن ثنا فلان ، وسرد الحديث .
والحديث خرجه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة ، وخرجه ابن خزيمة في صحيحه ، ولفظه : (( وجعل ترابها لنا طهوراً )) .
وقد تقدم الحديث في كتاب الصلاة في باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد .
وهذا أيضاً ليس مما نحن فيه لأن حديث حذيفة لم يرو بإسقاط هذه اللفظة وإثباتها ، وإنما وردت هذه اللفظة فيه ، وأكثر الأحاديث فيها : (( وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً )) .
وليس هذا من باب المطلق والمقيد كما ظنه بعضهم ، وإنما هو من باب تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر ، ولا يقتضي ذلك التخصيص إلا عند من يرى التخصيص بالمفهوم ، ويرى أن للقب مفهوماً معتبراً .
ومن الزيادات الغريبة في المتون :
زيادة من زاد في حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين (( ثم يحدث بعد ذلك وضوءا )) .
وزيادة من زاد في حديث : (( أذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )) ، (( قالوا يا رسول الله ولا ركعتي الفجر ؟ قال : ولا ركعتي الفجر )) .
وقد ذكرنا الحديثين في موضعهما من الكتاب ، وهما زيادتان ضعيفتان . وقد ذكر مسلم في كتاب التمييز حديث أيمن بن نابل عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول : في التشهد : (( باسم الله وبالله ، والتحيات لله .. الحديث )) ، وذكر أن زيادة التسمية في التشهد تفرد بها أيمن بن نابل ، وزاد في آخر التشهد : (( وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار )) . وذكر أن الحفاظ رووه عن أبي الزبير عن طاوس عن ابن عباس بدون هاتين الزيادتين .
قال : (( والزيادة في الأخبار لا تلزن إلا عن الحفاظ الذين لم يكثر عليهم الوهم في حفظهم .
وذكر مسلم أيضاً في هذا الكتاب رواية من روى من الكوفيين ممن روى حديث ابن عمر في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن شرائع الإسلام ، فأسقطوا من الإسناد عمر ، وزادوافي المتن ذكر الشرائع .
قال مسلم في هذه الزيادة : (( هي غير مقبولة لمخالفة من هو أحفظ منهم من الكوفيين سفيان ، ولمخالفة أهل البصرة لهم قاطبة ، فلم يذكروا هذه الزيادة ، وإنما ذكرها طائفة من المرجنة ليشيدوا بها مذهبهم )) .
وأما زيادة عمر في الإسناد فقال : (( أهل البصرة أثبت ، وهم له أحفظ من أهل الكوفة ، إذ هم الزائدون في الإسناد عمر ، ولم يحفظه الكوفيون ، والحديث للزائد الحافظ ، لأنه في معنى الشاهد الذي حفظ شهادته ما لم يحفظه صاحبه )) .
وهذا القياس الذي ذكره ليس بجيد ، لأنه لو كان كذلك لقبلت زيادة كل ثقة زاد في روايته ، كما يقبل ذلك في الشهادة ، وليس ذلك قول مسلم ولا قول أئمة الحفاظ ، والله أعلم .
وإنما قبل زيادة أهل البصرة في الإسناد لعمر لأنهم أحفظ وأوثق ممن تركه من الكوفيين ،وفي كلامه ما يدل على أن صاحب الهوى إذا روى ما يعضد هواه فإنه لا يقبل منه ، لا سيما إذا تفرد بذلك .
*
الغريب إسناداً لا متنا عند الترمذي *
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
ورب حديث يروى من أوجه كثيرة ، وإنما يستغرب لحال الإسناد :
حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي وأبو السائب والحسين الأسود ، قالوا : نا أبو أسامه عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي برده عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( الكافر يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يأكل في معي واحد )) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه من قبل إسناده وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنما يستغرب من حديث أبي موسى .
وسألت محمود بن غيلان عن هذا الحديث فقال : هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة .
وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : (( هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة )) لم يعرف إلا من حديث أبي كريب عن أبي أسامة .
فقلت : (( حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا )) . فجعل يتعجب ويقول : (( ما علمت أن أحداً حدث بهذا غير أبي كريب )) . قال محمد : (( وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة )) .
حدثنا عبد الله بن أبي زياد وغير واحد قالوا نا شبابة بن سوار نا شعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر : (( أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الدباء والمزفت )) .
هذا حديث غريب من قبل إسناده لا نعلم أحداً حدث به عن شعبة غير شبابة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت )) .
وحديث شبابة إنما يستغرب لأنه تفرد به عن شعبة ، وقد روى شعبة وسفيان والثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( الحج عرفة )) . فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد ) .
هذا نوع آخر من الغريب :
وهو أن يكون الحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من طرق معروفة ، ويروي عن بعض الصحابة من وجه يستغرب عنه ، بحيث لا يعرف حديثه إلا من مالك إلا من ذلك الوجه .
وقد ذكر الترمذي لهذا النوع مثالين :
أحدهما : حديث أبي كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله ابن أبي بردة عن جده عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( المؤمن يأكل في معي واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء )) .
فهذا المتن معروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وجوه متعدده ، وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأما حديث أبي موسى هذا فخرجه مسلم عن كريب ، وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه ، وذكروا أن أبا كريب تفرد به ، منهم البخاري ، وأبو زرعة ، وذكر لأبي زرعة من رواه عن أبي أسامة غير أبي كريب ، ؟ فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه .
وحسين بن الأسود كان يتهم بسرقة الحديث ، وأبو هشام فيه ضعف أيضاً ، وقد ذكرنا كلام أبي زرعة في هذا كتاب الأطعمة وإنكاره على أبي السائب وأبي هشام روايته .
وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار هذا الحديث أيضاً .
قال أبو داود : (( سمعت أحمد – وذكر له حديث بريد هذا – فقال أحمد : يطلبون حديثاً من ثلاثين وجهاً : أحاديث ضعيفة . وجعل ينكر طلب الطرق نحو هذا ، قال : شئ لا ينتفعون به . أو نحو هذا الكلام )) .
وإنما كره أحمد تطلب الطرق الغريبة الشاذة المنكرة ، وأما الطرق الصحيحة المحفوظة فإنه كان يحث على طلبها كما ذكرناه عنه في أول الكتاب .
وما حكاه الترمذي عن البخاري هاهنا أنه قال : (( كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة )) فهو تعليل للحديث ، فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب ، والمذاكرة يحصل فيها تسامح ،بخلاف حال السماع أو الإملاء ، ولذلك لم يروه عن بريد غير أسامة .
المثال الثاني : حديث شبابة عن شعبة بن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (( أنه نهى عن الدباء والمزفت )) فإن نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الانتباذ في الدباء والمزفت صحيج ثابت عنه ، رواه عنه جماعة كثيرون من أصحابه .
وأما رواية عبد الرحمن بن يعمر عنه فغريبة جداً ، ولا يعرف إلا بهذا الإناد ، تفرد بها شبابة عن شعبة عن بكير بن عطاء عنه .
وعند شعبة بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : (( الحج عرفة )) في حديث ذكره ، فهذا المتن هو الذي يعرف بهذا الإسناد .
وأما حديث النهي عن الدباء والمزفت فهو بهذا الإسناد غريب جداً ، وقد أنكره على شبابة طوائف من الأئمة ، منهم الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو حاتم ، وابن عدي .
وأما ابن المديني فإنه سئل عنه فقال : (( لا ينكر لمن سمع من شعبة – يعني حديثاً كثيراً – أن ينفرد بحديث غريب )) .
وقال أحمد : (( إنما روى شعبة بهذا الإسناد حديث الحج )) يشير إلى أنه لا يعرف بهذا الإسناد غير حديث الحج .
وقد سبق ذكر هذا الحديث مع الكلام عليه في كتاب الأشربة ، والله أعلم .
* * *
قال أبو عيسى رحمه الله تعالى :
(
حدثنا محمد بن بشار ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى ابن أبي كثير قال حدثني أبو مزاحم أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط ، ومن تبعها حتى يُقضى قضاؤها فله قراطان )) .
قالوا : (( يا رسول الله ، وما القراطان ؟ )) قال : (( أصغرهما مثل أحد ! )) .
حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أنا مروان ابن محمد عن معاوية بن سلاّم قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي مزاحم سمع أبا هريرة يقول : عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : (( من تبع جنازة فله قيراط )) فذكر بمعناه .
قال عبد الله بن عبد الرحمن : وأنا مروان عن معاوية بن سلاّم قال قال يحيى ، وحدثني أبو سعيد مولى المهري عن حمزة بن سفينة عن السائب سمع عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحوه .
قلت لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن : (( ما الذي استغربوا من حديثك بالعراق ؟ )) فقال : (( حديث السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم )) فذكر الحديث .
وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذاالحديث عن عبد الله بن عبد الرحمن .
قال : وهذا حديث قد روي من غير وجه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنما يستغرب هذا الحديث لحال إسناده ، لرواية السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) .
هذا نوع آخر من الغريب :
وهو أن يكون الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معروفاً من رواية صحابي عنه من طريق أو من طرق ، ثم يروى عن ذلك الصحابي من وجه آخر يستغرب من ذلك الوجه خاصة عنه . مثل ما ذكره الترمذي هاهنا من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سعيد مولى المهري عن حمزة بن سفينة عن السائب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهذا الحديث إنما يعرف من رواية عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ الذي خرجه الترمذي هنا عنه ، وذكر أن البخاري كان يحدث به عنه . وقد ذكره البخاري في تاريخه عنه فقال : (( قال عبد الله أنا مروان بن معاوية )) فذكره .
وخرجه بقيّ بن مخلد عن عبد الله الدارمي أيضاً ، وذكر الترمذي عن الدارمي أن أهل العراق كانوا يستغربون من حديثه هذا الحديث .
وحمزة بن سفينة الذي يرويه عن السائب بن يزيد شيخ بصري ذكره ابن حبان في ثقاته .
وهذا الحديث مروي من وجوه متعددة عن عائشة أنه صدقت أبا هريرة بما حدث به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من هذا الحديث ، وأما حديث السائب بن يزيد عنها فلا بعرف إلا من هذا الوجه .
ووما كا يستغرب من حديث الدارمي أيضاً بالعراق حديثه عن يحيى بن حسان عن سليمان بن بلال عن هشام عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( نعم الإدام الخل )) . وقد خرجه الترمذي في كتاب الأطعمة من كتابه هذا ، ومسلم في صحيحه كلاهما عن الدارمي به .
و [قد] سبق الكلام عليه في موضعه ، وذكرنا أن كثيراً من الحفاظ اسنتكروه على سليمان بن بلال ، منهم أحمد ، وأبو حاتم ، وأحمد بن صالح ، وغيرهم .
وكذلك قال جماعة منهم في حديث : (( بيت لا تمر فيه جياع أهله )) بهذا الإسناد ، ولكن هذا من نوع الغرب المذكور قبل هذا ، فإنه غريب من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، على أنه قد روي من وجه آخر عنها وهو ضعيف . والحديث معروف من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
*
الحديث المنكر وموازنته بالشاذ *
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
حدثنا أبو حفص عمرو بن علي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول : قال رجل : يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ؟ قال : (( أعقلها وتوكل )) .
قال عمرو بن عيل قال يحيى بن سعد : (( وهذا عندي حديث منكر )) .
قال أبو عيسى : هذا غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث أنس بن مالك إلا من هذا الوجه . وقد روي عن عمرو ابن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محو هذا ) .
قال أبو عيسى رحمه الله :
(
وزقد وضعنا هذا الكتاب على الاختصار ، لما رجونا فيه من المنفعة ، ونسأل الله عزوجل النفع بما فيه ، وأن لا يجعله وبالاً علينا ) .
آخر الكتاب والحمد لله وحده
حديث أنس هذا قد خرجه الترمذي فيما تقدم في أواخر كتاب الزهد ، وسبق هناك ذكره ، وذكر حديث عمرو بن أمية الضمري أيضاً ، وحديث أنس قد رواه غير واحد عن المغيرة بن أبي قروة عن أنس ، وقد تفرد بنه المغيرة عنه ، ولهذا غرّبه الترمذي .
وقد قال يحيى القطان : (( هو عندي منكر )) فهذا الحديث من الغرائب المنكرة .
ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث وتعريفه ، إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ ، وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل : (( أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل على الصحابة أو عن التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث ، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً )) .
ذكر هذا الكلام في سياق ما إذا انفرد شعبة ، أو سعيد بن أبي عروبة ، أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ، ولا يعرف المتن نت غير ذلك الطريق فهو منكر ، كما قاله الإمام أحمد في حديث عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النهي ، عن بيع الولاء و(عن) هبته )) .
وكذا قال أحمد في حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة (( أن الذين جمعوا الحج والعمرة طافوا حين قدموا لعمرتهم ، وطافوا لحجهم حين رجعوا من منى )) ، قال : (( لم يقل هذا أحد إلا مالك ، وقال : (( ما أظن مالكاً إلا غلط فيه ، ولم يجئ به أحد غيره )) ، وقال : (( لم يروه إلا مالك ، ومالك ثقة )) .
ولعل أحمد إنما استنكره لمخالفته الأحاديث في أن القارن يطوف طوافاً واحداً .
(
ثم) قال البرديجي بعد ذلك : (( فأما أحاديث قتادة الذي يرويها الشيوخ مثل حماد بن سلمة ، وهمام ، وأبان ، والأوزاعي ، ينظر في الحديث ، فإن كان الحديث يحفظ من غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر لم يدفع ، وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا من طريق عن أنس إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك ، كان منكراً )) .
وقال أيضاً : (( إذا روى الثقة من طريق صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثاً لا يصاب إلا عند الرجل الواحد – لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان كتن الحديث معروفاً ، ولا يكون منكراً ولا ممولاً )) .
وقال في حديث رواه عمرو بن عاصم عن همام عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( إني أصبت حداً فاقة على .. الحديث )) : (( هذا عندي حديث منكر ، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم )) .
ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال : (( هذا حديث باطل بهذا الإسناد )) .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من هذا الوجه ، وخرج مسلم معناه أيضاً من حديث أمامة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فهذا شاهد لحديث أنس .
ولعل أبا حاتم والبرديجي إنما أنكر الحديث لأنه عمرو بن عاصم ليس هو عندهما في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد ، والله أعلم .
وقال إسحاق بن هانئ : قال لي أبو عبد الله [ يعني أحمد ] قال لي يحيى بن سعيد : لا أعلم عبيد الله يعني ابن عمر أخطأ إلا في حديث واحد لنافع ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ((لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام ..))الحديث ، قال أبو عبد الله :(( فأنكره يحيى بن سعيد عليه ! )) .
قال أبو عبد الله فقال لي يحيى بن سعيد : (( فوجدته قد حدث به العمري الصغير عن نافع عن ابن عمر مثله )) .
قال أبو عبد الله : : (( لم يسمعه إلا من عبيد الله ، فلما بلغه عن العمري صححه )) .
وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر .
وكلام أحمد قريب من ذلك قال عبد الله : سألت أبي عن حسين بن علي الذي يروي حديث المواقيت ؟ فقال : (( هو أخو أبي جعفر محمد بن علي ، وحديثه الذي روى في المواقيت ليس بمنكر ، لأنه قد وافقه على بعض صفاته غيره )) .
وقال أحمد في بُريد بن عبد الله بن أبي بردة : (( يروي أحاديث مناكير ! )) .
وقال [ أحمد ] في محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وهو المنفرد برواية حديث : (( الأعمال بالنيات )) : (( في حديثه شئ ، يروي أحاديث مناكير أو قال منكرة ؟ )) .
وقال في زيد بن أبي أنيسة : (( إن حديثه مقارب ، وإن فيها لبعض النكارة ، قال : وهو على ذلك حسن الحديث )) .
قال الأثرم قلت لأحمد : (( إن له أحاديث إن لم تكن مناكير فهي غرائب ! قال : نعم )) .
وهؤلاء الثلاثة متفق على الاحتجاج بحديثهم في الصحيح ، وقد الستنكر أحمد ما تفردوا به .
وكذلك قال عمرو بن الحارث : (( له مناكير )) ، وفي الحسين بن واقد ، وخالد بن مخلد ، وفي [في] جماعة خرج لهم في الصحيح بعض ما يتفردون به )) .
وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا ، وأن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه – وليس له علة – فليس بمنكرة .
وقد قال مسلم في أول كتابه : (( حكم أهل العلم والذي تعرف من مذهبهم في قبول ما يتفرد به المحدث من الحديث ، أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رووا ، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم ، فإذا واجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً ليس عند أصحابه قبلت زيادته )) .
((
فأما من نراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديث وحديث غيره ، أو لمثل هشام بن عروة ، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم في أكثره ، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما ، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم ، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس ، والله أعلم .
[
فصرح بأن الثقة إذا أمعن في موافقة الثقات في حديثهم ، ثم تفرد عنهم بحديث قبل ما تفرد به ، وحكاه عن أهل العلم ] .
وقد ذكرنا فيما تقدم قول الشافعي في الشاذ ، وأنه قال : (( ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره ، إنما الشاذ أن يروي حديثاً يخالف الناس ، وكذا قال أبو بكر الأثرم .
وحكى أيو يعلى الخليلي هذا القول على الشافعي وجماعة من أهل الحجاز ، ثم قال : (( الذي عليه حفاظ الحديث : أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد بذلك شيخ ثقة أو غير ثقة ، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل ، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به )) .
وكذلك ذكر الحاكم : أن الشاذ هو الحديث الذي (( يتفرد به ثقة من الثقات وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة )) ، ولم يوقف له على علة .
ولكن كلام الخليل في تفرد الشيوخ ، والشيوخ في اصطلاح أهل ها العلم عبارة عمن دون الأئمة والحفاظ ، وقد يكون فيهم الثقة وغيره .
فأما ما أنفرد به الأئمة والحفاظ فقد سماه الخليلي فرداً ، وذكر أن أفراد الحفاظ المشهورين الثقات ، أو أفراد إمام من الحفاظ الأئمة صحيح متفق عليه ، ومثله بحديث مالك في المغفر ، [ فتلخص من هذا أن النكارة لا تزول عند يحيى القطان والإمام أحمد والبرديجي وغيرهم من المتقدمين إلا بالمتابعة وكذلك الشذوذ ، كما حكاه الحاكم .
وأما الشافعي وغيره فيرون أن ما تفرد به ثقة مقبول الرواية ولم يخالفه غيره فليس بشاذ ، وتصرف الشيخين يدل على مثل هذا المعنى .
وفرق الخليلي بين ما ينفرد به شيخ من الشيوخ الثقات ، وبين ما ينفرد به إمام أو حافظ . فما انفرد به إمام أو حافظ قبل واحتج به ، بخلاف ما تفرد به شيخ من الشيوخ . وحكى ذلك عن حفاظ الحديث والله أعلم ] .
* * *
وقد ذكر الترمذي رحمه الله : أنه إنما وضع كتابه هذا على الاختصار ، لما رجا فيه من المنفعة ، وهو تقريبه على طلبه العلم ، وكان قد وعد بكتاب أكبر منه يستوعب فيه الأحاديث والآثار ، ثم سأل الله عند فراغ كتابه – النفع بما فيه ، وأن لا يجعله وبالاً عليه برحمته .
وقد ظهرت آثار إجابة دعائه الأول ، وحصل النفع بهذا الكتاب نفعاً عاماً .
قال محمد بن طاهر المقدسي : سمعت أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري يقول :
((
كتاب أبي عيسى الترمذي عندي أفيد من كتاب البخاري ومسلم .
قلت : لِمَ ؟ !
قال : لأن كتاب البخاري ومسلم لا يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة . وهذا كتاب قد شرح أحاديثه وبينهما ، فيصل إلى فائدته كل واحد من الناس ، من الفقهاء والمحدثين ، وغيرهم )) .
[
تَمَّ ـ بحمد الله تعالى ـ الجزء الأول ]
(1)
العناوين ليست من المؤلف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة غريب القران مشمولة والفيزيا 3ث

  🆀غريب القران بيان غريب القران رائع ...