مراجع في المصطلح واللغة

مراجع في المصطلح واللغة

كتاب الكبائر_لمحمد بن عثمان الذهبي/تابع الكبائر من... /حياة ابن تيمية العلمية أ. د. عبدالله بن مبارك آل... /التهاب الكلية الخلالي /الالتهاب السحائي عند الكبار والأطفال /صحيح السيرة النبوية{{ما صحّ من سيرة رسول الله صلى ... /كتاب : عيون الأخبار ابن قتيبة الدينوري أقسام ا... /كتاب :البداية والنهاية للامام الحافظ ابي الفداء ا... /أنواع العدوى المنقولة جنسياً ومنها الإيدز والعدوى ... /الالتهاب الرئوي الحاد /اعراض التسمم بالمعادن الرصاص والزرنيخ /المجلد الثالث 3. والرابع 4. [ القاموس المحيط - : م... /المجلد 11 و12.لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور ال... /موسوعة المعاجم والقواميس - الإصدار الثاني / مجلد{1 و 2}كتاب: الفائق في غريب الحديث والأثر لأبي... /مجلد واحد كتاب: اللطائف في اللغة = معجم أسماء الأش... /مجلد {1 و 2 } كتاب: المحيط في اللغة لإسماعيل بن ... /سيرة الشيخ الألباني رحمه الله وغفر له /اللوكيميا النخاعية الحادة Acute Myeloid Leukemia.... /قائمة /مختصرات الأمراض والاضطرابات / اللقاحات وما تمنعه من أمراض /البواسير ( Hemorrhoids) /علاج الربو بالفصد /دراسة مفصلة لموسوعة أطراف الحديث النبوي للشيخ سع... / مصحف الشمرلي كله /حمل ما تريد من كتب /مكتبة التاريخ و مكتبة الحديث /مكتبة علوم القران و الادب /علاج سرطان البروستات بالاستماتة. /جهاز المناعة و الكيموكين CCL5 .. /السيتوكين" التي يجعل الجسم يهاجم نفسه /المنطقة المشفرة و{قائمة معلمات Y-STR} واختلال الص... /مشروع جينوم الشمبانزي /كتاب 1.: تاج العروس من جواهر القاموس محمّد بن محمّ... /كتاب :2. تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب تاج العروس من جواهر القاموس /كتاب : تاج العروس من جواهر القاموس

السبت، 31 يوليو 2021

ج1. العروة الوثقي

 ج1..رسائل سعيد بن علي بن وهف القحطاني
العروة الوثقى  في ضوء الكتاب والسُّـنَّة  المفهوم، والفضائل، والمقتضى، والأركان، والشروط، والنواقص، والنواقض
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في كلمة التوحيد: العروة الوثقى، والكلمة الطيبة، وكلمة التقوى، وشهادة الحق، ودعوة الحق، ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله r(( جمعتها لنفسي ولمن شاء الله تعالى من عباده، وأسأل الله الذي لا إله إلاّ هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن يجعلني وإياكم وجميع المسلمين من أهلها الصادقين المخلصين، الموقنين العاملين بما دلت عليه، وبما تقتضيه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
وقد قسمت البحث إلى أربعة فصول، وتحت كل فصل مباحث على النحو الآتي:
الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله.
المبحث الأول: مكانة ومنزلة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله.
المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله.
المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله.
المبحث الخامس: لا إله إلا الله تتضمن أنواع التوحيد.
المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله.
الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله r.
المبحث الأول: معناها ومقتضاها.
المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي r.
المبحث الثالث: الحجج والبراهين على صدقه r.
المبحث الرابع: حقوقه على أمته r.
المبحث الخامس: عموم رسالته r.
المبحث السادس: تحريم الغلو والإطراء فيه r.
الفصل الثالث: نواقض ونواقص الشهادتين.
المبحث الأول: أقسام المخالفات.
المبحث الثاني: أخطر النواقض وأكثرها وقوعاً.
المبحث الثالث: تفصيل بعض النواقض وأنواع النفاق والبدع.
المبحث الرابع: أصول النواقض.
الفصل الرابع: دعوة المشركين إلى كلمة التوحيد.
المبحث الأول: البراهين العقلية لإثبات ألوهية الله تعالى.
المبحث الثاني: ضعف جميع المعبودات من دون الله تعالى.
المبحث الثالث: ضرب الأمثال.
المبحث الرابع: الكمال المطلق لله وحده.
المبحث الخامس: بيان الشفاعة المثبتة والمنفية.
المبحث السادس: الإله الحق سخر ما في الكون لعباده.
وقد سلكت في هذا البحث منهج أهل السنة والجماعة، وأسأل الله أن يجعله مباركاً خالصاً لوجهه الكريم، مقرباً لمؤلفه، وقارئه، وطابعه، وناشره من جنات النعيم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في يوم السبت الموافق 17/10/1415ه‍

الفصل الأول: تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله
المبحث الأول: مكانة ومنزلة لا إله إلا الله
لا إله إلا الله: كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسموات، وخُلقت لأجلها جميع المخلوقات، قال تعالى: ] وَمَا خَلَقْتُ الـْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا
لِيَعْبُدُونِ [([1])، [ومن أجلها خلقت الدنيا والآخرة]، وبها أرسل الله رسلَهُ، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛قال الله تعالى:]وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ[ ([2])؛ ولأجلها نصبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، [وفي شأنها تكون الشقاوة والسعادة، فهي منشأُ الخلق والأمر، والثواب والعقاب [وبها تؤخذ الكتب باليمين أو الشمال، ويثقل الميزان أو يخف، وبها النجاة من النار بعد الورود، وبعدم التزامها البقاء في النار] وهي الحقُّ الذي خلقت له الخليقة، [وبها أخذ الله الميثاق] وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب [يوم التلاق]، وعليها يقع الثواب والعقاب، وعليها نُصِبتِ القِبلةُ، وعليها أُسِّسَتِ الملة؛ وهي حقُّ الله على جميع العباد، قال r: ((... حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً))([3])، [وهي أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده المؤمنين إذ هداهم إليها]، فهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وبها يُعصم الدم والمال، ومن أجلها جُرِّدت سيوف الجهاد، قال r: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))([4])، وهي أول ما يجب أن يُدعى إليه. قال r لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: ((إنّك تَقْدَمُ على قومٍ أهلِ كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)) وفي رواية: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله..))([5]).
[
وهي أصل الدين وأساسه، ورأس أمره وساق شجرته، وعمود فسطاطه، قال r: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت))([6])، وهي العروة الوثقى، وهي كلمة الحق، وكلمة التقوى، وهي القول الثابت، والكلمة الطيبة، وأعظم الحسنات]، وشهادة الحق، وكلمة الإخلاص، ودعوة الحق، وأفضل الذكر، وأفضل ما قاله النبيون، وهي أفضل الأعمال، وتعدل عتق الرقاب، وتفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية، وهي الكلمة العظيمة التي عنها يُسأل الأولون والآخرون فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يُسأل عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟وماذا أجبتم المرسلين؟فجواب الأولى:بتحقيق ((لا إله إلا الله)) : معرفةً، وإقراراً وعملاً، وجواب الثانية: ((أن محمداً رسول الله)): معرفةً، وإقراراً، وانقياداً، وطاعة([7])؛ لأنه عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين، فهدى الله به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، [وفتح به أعيناً عُمياً، وقلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وافترض على العباد طاعته، ونصرته وإعانته، وتوقيره ومحبته، والقيام بحقوقه، وسدَّ الله دون جنته الطرق فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وجعل الذِّلّةَ والصَّغار على من خالف أمره، وبحسب متابعته r تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه: الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه: الذِّلةُ والصَّغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة([8]).
المبحث الثاني: معنى لا إله إلا الله
معنى ((لا إله إلا الله)): لا معبود بحق إلا الله([9]) فالحق أن معنى كلمة التوحيد: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى: ] شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالـمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الـحَكِيمُ [([10])، كما قال تعالى: ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [([11])، ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [([12])، ] وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [([13])، ] ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الـحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [([14])، ] مَا اتَّخَذَ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ [([15])، ] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [([16])، ] وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [([17])، ] قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً *سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا[([18])، ] لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [([19])، ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا
مُسْلِمُونَ [([20])، ] وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ الله قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الـْمُتَوَكِّلُونَ [([21])، ] قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لـَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاّ غُرُورًا [([22])، ] قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لـَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّموَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ [([23])، ] قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ الله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الـْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [([24])،
]
قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [([25])، ] إِنَّ هَـذَا لـَهُوَ الْقَصَصُ الـْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لـَهُوَ الْعَزِيزُ الـْحَكِيمُ [([26]).
وهذه الآيات السابقة وغيرها من الآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى تبيّن أن الله هو المعبود بحق وحده لا شريك له ولا رب سواه، فاتضح أن معنى ((الإله))([27]) هو المعبود؛ ولهذا قال قوم هود: ] قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [([28])، ولما قال النبي r لكفار قريش: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))([29])، قالوا: ] أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلـَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [([30])؛لأنهم قد اعتادوا عبادة الأصنام، والأوثان، والأولياء، والأشجار، والقبور، والذبح لهم، والنذر لهم وطلب قضاء الحاجات وتفريج الكروب فاستنكروا هذه الكلمة؛ لأنها تبطل آلهتهم ومعبوداتهم من دون الله تعالى([31]).
]
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لـَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [([32]).
فتضمنت كلمة لا إله إلا الله أن ما سوى الله تعالى ليس بإله وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، وإثباتها أظلم الظلم، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، فتضمنت هذه الكلمة نفي الإلهية عما سواه، وإثباتها له وحده لا شريك له، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه إلهاً واحداً والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً... وقد دخل في الإلهية جميع أنواع العبادة الصادرة عن تألّه القلب لله: بالحب والخضوع، والانقياد له وحده لا شريك له([33])؛ لأنه الإله الحق الذي تألهه القلوب: محبةً وإجلالاً، وإنابةً، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفاً، ورجاءً، وتوكلاً([34]). فيجب إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة: كالدعاء، والخوف، والمحبة، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذبح، والنذر، والسجود، والطواف، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، وجميع أنواع العبادة، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة([35]).
فيجب صرف ذلك كله لله وحده لا شريك له، فمن صرف شيئاً مما لا يصلح إلا لله من العبادات لغير الله تعالى فهو مشرك ولو نطق بـ((لا إله إلا الله)) إذا لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والإخلاص([36]).
# # #
المبحث الثالث: أركان لا إله إلا الله
الركن الأول: النفي: وهو نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى من جميع المخلوقات كائناً من كان.
الركن الثاني: الإثبات: وهو إثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه فهو الإله الحق وما سواه من الآلهة باطل([37])، ] ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الـْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [([38]).
وقد أعرب العلماء كلمة التوحيد ((لا إله إلا الله)) فقالوا: ((لا)) نافية للجنس، و((إله)) اسمها مبني على الفتح، وخبرها محذوف تقديره، ((حق)) أي: لا إله حق. إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع([39]) فـ((لا إله إلا الله)) نافياً لجميع ما يعبد من دون الله، فلا يستحق أن يعبد. ((إلا الله)) مثبتاً العبادة لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة، فتقدير خبر ((لا)) بحق هو الذي جاءت به النصوص من الكتاب والسنة.
أما تقديره بـ((موجود)) أو ((معبود)) فقط فهو غلط خلاف الصواب، لكن لو نعت اسم ((لا)) بحق فلا بأس: ويكون التقدير ((لا إله حقاً موجود إلا الله))([40])؛ لأنه يوجد معبودات كثيرة من الأصنام والأضرحة، والقبور وغيرها، ولكن المعبود بحق هو الله وحده، وما سواه فمعبود بالباطل وعبادته باطلة، وهذا مقتضى ركني لا إله إلا الله([41]).
# # #
المبحث الرابع: فضل لا إله إلا الله
كلمة التوحيد لها فضائل عظيمة لا يمكن حصرها، من قالها صادقاً من قلبه وعمل بما دلت عليه كانت له السعادة في الدنيا والآخرة، ومن قالها كاذباً حقنت دمه وحفظت عليه ماله في الدنيا وحسابه على الله U. ومن فضائلها وعظمتها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
1 -
عن معاذ t يرفعه إلى النبي r: ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة))([42]).
2 -
وعن أنس بن مالك t قال: كان رسول الله r يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار. فسمع رجلاً يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله r: ((على الفطرة)) ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله. فقال رسول الله r: ((خرجت من النار)) فنظروا فإذا هو راعي مِعْزى([43]).
3 -
وعن أبي ذر t قال: قلت يا رسول الله! أوصني. قال: ((إذا عملت سيئةً فأتبعها حسنة تمحها)). قال قلت: يا رسول الله! أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: ((هي أفضل الحسنات))([44]).
4 -
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي r أنَّ نوحاً قال لابنه عند موته: ((آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع، لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفّة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كُنّ حلقة مُبهمة قصمتهن لا إله إلا الله))([45]).
5 -
وعن أبي سعيد الخدري t عن رسول الله r قال: ((قال موسى u يا رب علمني شيئاً أذكرك به وأدعوك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: إنما أريد شيئاً تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع [وعامِرَهن غيري] والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله))([46]).
6 -
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: ((إن الله سيخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاًّ كلُّ سجلٍ مثل مد البصر ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقةٌ فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلاّت في كفة والبطاقة في كفَّةٍ فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء))([47]).
7 -
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((ما قال عبدٌ لا إله إلا الله قَطّ مخلصاً إلا فُتحت له أبوابُ السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر))([48]).
8 -
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: ((إن من أفضل الدعاء الحمد لله، وأفضل الذكر لا إله إلا الله))([49]).
9 -
وثبت عن النبي r أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. من قالها في مرضه، ثم مات لم تطعمه النار))([50]).
10 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي r قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))([51]).
11 -
وعن ابن عمر أن رسول الله r قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كَتَبَ الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورَفع له ألف ألف درجة))([52]).
12 -
وعن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك))([53]).
13 -
وعن أبي أيوب الأنصاري t عن رسول الله r: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير عشر مرار، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل))([54]).
14 -
وعن أبي هريرة t عن النبي r أنه قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.. عشر مرات حين يصبح كتب الله له بها مائة حسنة، ومحا عنه بها مائة سيئة، وكانت له عدل رقبة، وحُفِظ بها يومئذٍ حتى يمسي ومن قالها مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك))([55]).
15 -
وعن عُمارة بن شبيب أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله r قال: ((من قال بعد المغرب أو الصبح [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويُميتُ، وهو على كل شيء قدير] عشر مرات بعث الله له مَسْلَحَة([56]) يحرسونه [من الشيطان] حتى يصبح، ومن حين يصبح حتى يمسي [وكتب له بها عشر حسنات موجبات، ومحي عنه عشر سيئات موبقات، وكانت له كعدل عشر رقاب مؤمنات]))([57]).
16 -
وعن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال: ((من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك، وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار))([58]).
ومن فضل الله تعالى أنه لم يحرم عباده الخير والفضل فقد ثبت عن النبي r أن من قالها إذا أصبح مرة واحدة كان له الفضل الآتي:
17 -
عن أبي عياش أن رسول الله r قال: ((مَن قال إذا أصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كانت له عدل رقبة من ولد إسماعيل، وكتب له عشر حسنات، وحُطّ عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان في حرز من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثل ذلك حتى يصبح))([59]).
18 -
وعن عمر بن الخطاب t عن النبي r أنه قال:((ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء))([60]).
19 -
وعن عمر بن الخطاب t أيضاً قال: قال رسول الله r: ((إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله. قال أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قال أشهد أن محمداً رسول الله. قال أشهد أن محمداً رسول الله. ثم قال حي على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال حي على الفلاح. قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر. قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة))([61]).
20 -
وعن عتبان بن مالك t يرفعه إلى النبي r: ((.. فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))([62]).
21 -
وعن سعد بن أبي وقاص t عن رسول الله r أنه قال: ((من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. رضيت بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً غفر له ذنبه))([63]).
22 -
وعن عبد الله بن بريدة الأسلمي عن أبيه قال سمع النبي r رجلاً يدعو وهو يقول: ((اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد))، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى))([64]).
23 -
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((الإيمان بضع([65]) وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قولُ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة([66]) من الإيمان))([67]).
24 -
وعن أبي ذر t عن النبي r أنه قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة))([68]).
25 -
وعن عبادة بن الصامت t قال: قال رسول الله r: ((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)) وفي رواية: ((أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء))([69]).
26 -
قتل أسامة t رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله، فقال له رسول الله r: ((يا أسامة، قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله))؟ قال: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة)) فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))؟ قال أسامة t: فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ([70]).
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وقد ذكرت منها ستة أحاديث غير هذا في شروط لا إله إلا الله في هذا الكتاب([71]).
وهذه الأحاديث دلّت على أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، ولكن لابد من استكمال شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، فمن أتى بهذه الكلمة وقد سلم من أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم العبد نفسه بالمعاصي فيما دون الشرك فله الأمن التام والهداية التامة، ويدخل الجنة برحمة الله وفضله بغير حساب، ومن جاء بهذه الكلمة وقد نقصها بالذنوب التي لم يتب منها؛ فإن كانت صغائر كُفِّرت باجتناب الكبائر كما في قوله تعالى: ] إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا [([72])، وإن كانت كبائر فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ثم أدخله الجنة([73]).
وأحسن ما قيل في هذه الأحاديث ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: ((إن هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة، وقالها خالصاً من قلبه مستيقناً بها قلبه، غير شاك فيها بصدق ويقين؛ فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب [كلها] توبة نصوحاً فإذا مات على تلك الحال نال ذلك؛ فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيراً ممن يقول: لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبينها، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث: ((سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته))، وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم وهم أقرب الناس من قوله تعالى: ] إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [([74]) وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث فإذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً؛ فإنَّ كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذاً لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهية لما أمر الله به، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإنَّ هذا الإيمان وهذه التوبة، وهذا الإخلاص، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا يتركون له ذنباً إلا يُمحى كما يُمحى الليل بالنهار([75]).
فتبين بذلك أن لا إله إلا الله لابد من استكمال جميع شروطها، وأركانها، ومقتضاها، والابتعاد عن نواقضها، ونواقصها من المعاصي؛ ولهذا قال وهب بن منبه لمن سأله: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؛ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح وإلا لم يفتح([76]).
# # #
المبحث الخامس:لا إله إلا الله تتضمن جميع أنواع التوحيد
الله I: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، فإفراده تعالى وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين كله لله هذا هو توحيد الألوهية: وهو معنى (لا إله إلا الله) وهذا التوحيد يتضمن جميع أنواع التوحيد([77]) ويستلزمها؛ فإن التوحيد نوعان:
1 -
التوحيد الخبري العلمي الاعتقادي: وهو توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتكلمه بكتبه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه، وقدره، وحكمته، وتنزيهه عما لا يليق به.
2 -
التوحيد الطلبي القصدي الإرادي: وهو توحيد في الطلب والقصد: وهو توحيد الإلهية أو العبادة([78]).
وتكون أنواع التوحيد على التفصيل ثلاثة أنواع كالآتي:
النوع الأول: توحيد الربوبية وهو الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق، والملك، والرزق، والتدبير، الذي ربّى جميع خلقه بالنعم،وربى خواص خلقه - وهم الأنبياء وأتباعهم المخلصون - بالعقائد الصحيحة والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدنيا والآخرة.
النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله هو المنفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله r من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف. ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله r من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله.
وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات قد وضحه الله في كتابه كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر سورة الحشر، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك([79]).
النوع الثالث: توحيد الإلهية، ويقال له: توحيد العبادة، وهو الاعتقاد الجازم - مع العلم والعمل والاعتراف - بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها، وإخلاص الدين كله لله، وهو يستلزم توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعمّ أوصاف الكمال، وجميع أوصاف الربوبية والعظمة؛ فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال، فتوحده سبحانه بصفات الكمال، وتفرده بالربوبية، يلزم منه أن لا يستحق العبادة أحد سواه.
وتوحيد الألوهية هو مقصود دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم.وهذا النوع قد تضمنته سورة ]قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [،
و] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [([80])، وأول سورة السجدة وآخرها، وأول سورة غافر ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وغالب سور القرآن. وكل سور القرآن قد تضمنت أنواع التوحيد، فالقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير أنواع التوحيد؛ لأن القرآن كله:
إما خبر عن الله وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأقواله، فهذا هو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي: ((توحيد الربوبية والأسماء والصفات)).
وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما يُعبد من دونه، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي -((توحيد الألوهية))-.
وإما أمر ونهي وإلزام بطاعة الله، وذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده سبحانه.
وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه، وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم([81]).
المبحث السادس: لا إله إلا الله دعوة الرسل عليهم السلام
يجب أن يُبلّغ كل من أشرك بالله تعالى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده دون ما سواه، وأن الحجة قد قامت على جميع الأمم، وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له([82])؛ قال تعالى: ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الـْمُكَذِّبِينَ [([83])،
]
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [([84])، وقال تعالى: ] وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ ([85]).
فبيّن سبحانه في هذه الآيات عن طريق العموم أن جميع الرسل دعوا إلى ((لا إله إلا الله))، وخلع جميع المعبودات من دون الله([86])، وفَصَّل ذلك في مواضع أخرى من كتابه، كقوله تعالى: ] لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ... [([87])، ] وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ [([88])، ] وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالـِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ [([89])، ] وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ [([90])، ] وَقَالَ الـْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الـْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [([91]).
وهذا بلاغ مبين من الله لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
# # #
المبحث السابع: شروط لا إله إلا الله
وكلمة التوحيد لا تنفع قائلها إلا إذا عُمِلَ بشروطها، فقد كان المنافقون يقولونها وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بها ولم يعملوا بشروطها، وكذلك اليهود تقولها وهم من أكفر الناس لعدم إيمانهم بها، وهكذا عُبّاد القبور والأولياء من هذه الأمة يقولونها بألسنتهم وهم يخالفونها بأقوالهم، وأفعالهم، وعقيدتهم، فلا تنفعهم ولا يكونون بقولها مسلمين؛ لأنهم ناقضوها بأقوالهم، وأعمالهم، وعقائدهم؛ ولهذا ذكر بعض أهل العلم لها سبعة شروط([92]) ونظمها بعضهم بقوله:
العلم، واليقين، والقبول
والانقياد فادرِ ما أقول
والصدق، والإخلاص، والمحبه
وَفَّقكَ الله لما أحبه([93])
وقد زاد بعضهم شرطاً ثامناً فقال:
علم، يقين، وإخلاص، وصدقك مع
محبة وانقياد والقبول لها
وزيد ثامنها الكفران منك بما
سوى الإله من الأنداد قد أُلِها([94])
وهذان البيتان قد استوفيا جميع شروطها:
الشرط الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل وتقدم أن معناها: لا معبود بحق إلا الله تعالى. فجميع الآلهة التي يعبدها الناس سوى الله تعالى كلها باطلة. قال تعالى: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله [([95])، وقال r: ((من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة))([96]).
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك، فلابد في حق قائلها أن يكون على يقين بأن الله تعالى هو المعبود بحق؛ فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن أو التوقف والتردد فكيف إذا دخله الشك، قال تعالى: ] إِنَّمَا الـْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [ إلى قوله تعالى: ] أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [([97]).
وقال r: ((.. أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاكٍّ فيهما إلا دخل الجنة))([98])، وقال r في حديث طويل لأبي هريرة t: ((... اذهب بنعليَّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبُهُ فبشره بالجنة..))([99]).
فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاكٍّ فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط([100])، وقال ابن مسعود t ((اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان))([101]).
ولا شك أن من كان موقناً بمعنى لا إله إلا الله فإن جوارحه تنبعث لعبادة الرب وحده لا شريك له، ولطاعة الرسول r؛ ولهذا كان ابن مسعود t يقول: ((اللهم زدنا إيماناً، ويقيناً وفقهاً))([102])، وذُكِرَ عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال: ((لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطار اشتياقاً إلى الجنة وهرباً من النار))([103]).
الشرط الثالث: القبول المنافي للرد، وذلك أن يقبل ما دلت عليه هذه الكلمة بقلبه ولسانه ويرضى بذلك؛ ولهذا كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله ولكنهم لم يقبلوها فذمهم الله تعالى وقال: ] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لـَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ [([104])، وقال: ] فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ [([105])، وقال r: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلتُ به))([106]).
الشرط الرابع: الانقياد المنافي للترك، فينقاد لما دلت عليه، ويعبد الله وحده، ويعمل بشريعته، ويؤمن بها ويعتقد أنها الحق، ولعل الفرق بينه وبين القبول: أن الانقياد هو الاتباع بالأفعال والقبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول ويلزم منهما جميعاً الاتباع ولكن الانقياد هو الاستسلام والإذعان وعدم الترك لشيء([107]) من شروط لا إله إلا الله.
قال تعالى: ] وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [([108])، ] وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [([109])، ] وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الأُمُور [([110])، وهذا معنى حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به))([111])، وهذا هو تمام الانقياد وغايته([112]).
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب وهو أن يقولها وهو صادق في ذلك صدقاً من قلبه يطابق قلبه لسانه ولسانه قلبه؛ فإن قالها باللسان فقط وقلبه لم يؤمن بمعناها فيكون من جملة المنافقين كما قال سبحانه عنهم أنهم قالوا ] نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله [([113])، فكذبهم الله وقال تعالى: ] وَالله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الـْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [.
وقد ثبت اشتراط الصدق في الشهادة في الحديث الصحيح قال r: ((ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار))([114]).
الشرط السادس: الإخلاص المنافي للشرك وهو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك فيخلص العبد لربه في جميع العبادات، وإذا صرف شيئاً منها لغير الله: من نبي أو ولي، أو ملَكٍ، أو صنم، أو جني أو غير ذلك فقد أشرك بالله ونقض هذا الشرط وهو شرط الإخلاص.
قال تعالى: ] فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلا لله الدِّينُ الـْخَالِصُ [([115])،
]
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [([116])، وقال r: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه))([117]).
الشرط السابع: المحبة المنافية للبغض، فيجب على العبد أن يحب الله U، فيحب كلمة التوحيد، ويحب ما اقتضته ودلّت عليه، قال تعالى:
]
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لله [([118])، وقال سبحانه: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الـْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [([119])، ] قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [([120]).
وقال r: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))([121])، وإذا أحب العبد الله U فإنه يحب من يحب الله ورسوله؛ لأن من أحب أحداً أحب من يحبه؛ ولهذا قال r: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))([122])؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته([123]):
شَرْطُ المحبَّةِ أن توافِقَ مَنْ
تُحِبُّ على محبَّتِهِ بلا عِصيان
فإذا ادعيتَ له المحبَّةَ مع خلا
فِكَ ما يُحِبُّ فأنت ذو بهتان
أتُحِبُّ أعداء الحبيبِ وتدّعي
حباً له ما ذَاك في إمكانِ
وكذا تُعادي جاهداً أحبابَهُ
أين المحبةُ يا أخا الشيطانِ
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
الشرط الثامن: الكفر بما يعبد من دون الله، وهو أن يتبرَّأ من عبادة غير الله، ويعتقد أنها باطلة كما قال تعالى: ] فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ [([124])، وقال تعالى: ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ
الطَّاغُوتَ [([125]).
قال الإمام محمد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى: ((فأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتكفِّر أهلها وتعاديهم..
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع أو مطاع، والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبِدَ وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادّعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله([126]).
وقد ثبت عن رسول الله r أنه قال: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبدُ من دون الله، حَرُمَ مالُهُ ودمه وحسابه على الله))([127]).
وأما من كان لا يرضى بعبادة المخلوقين له من دون الله: كالأنبياء، والصالحين، والملائكة، فإنهم ليسوا بطواغيت وإنما الطاغوت هو الشيطان الذي دعا الناس إلى عبادتهم وزينها للناس. ومن أعظم الأدلة على وجوب الكفر بالطاغوت وجميع ما يعبد من دون الله قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للكفَّار ] إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [([128])، فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر الله سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال:
]
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [([129])، وقول النبي r في الحديث السابق: ((من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله)) وهذا من أعظم ما يُبَيِّنُ معنى لا إله إلاَّ الله؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلّها، ويا لَهُ من بيانٍ ما أوضحه، وحجةٍ ما أقطعها للمنازع([130]).
نسأل الله لنا ولجميع المسلمين العفو والعافية في الدنيا والآخرة من كل سوء ومكروه([131]).
# # #
الفصل الثاني: تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله r
المبحث الأول: معناها ومقتضاها
1 -
معنى ((شهادة أن محمداً رسول الله)) هو الإقرار باللسان، والاعتقاد الجازم بالقلب بأن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي عبد الله ورسوله أرسله إلى جميع الخلق كافة: من الجن والإنس([132]).
2 -
ومقتضى هذه الشهادة: طاعته فيما أمر، وتصديقُهُ فيما أخبر، واجتنابُ ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع([133]).
فيجب الإيمان بشريعته r، والانقياد لها: قولاً ، وعملاً، واعتقاداً: من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، والقيام الكامل بأركان الإسلام: من شهادة، وصلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وغير ذلك مما شرع الله على يده r كالإحسان بأنواعه([134]).
# # #
المبحث الثاني: وجوب معرفة النبي r
وهذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم معرفتها وهي: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمد r([135]). وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم، وهاشم من قريش وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً رسولاً، نبئ بـ(اقرأ) وأرسل بالمدثر، وبلده مكة وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرِجَ به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِرَ بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة أُمِرَ ببقية شرائع الإسلام مثل:الزكاة، والصلاة، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وغير ذلك أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق وهذا دينه،لا خير إلا دلّ أمته عليه، ولا شر إلا حذرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس،فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار([136]).
وتحصل معرفته r بدراسة حياته، وما كان عليه من العبادة، والأخلاق الجميلة، والدعوة إلى الله U، والجهاد في سبيل الله تعالى، وغير ذلك من جوانب حياته r، فينبغي لكل مسلم يريد أن يزداد معرفة بنبيه وإيماناً به أن يطالع من سيرته ما تيسر: في حربه وسلمه، وشدته ورخائه، وسفره وإقامته، وجميع أحواله نسأل الله U أن يجعلنا من المتبعين لرسوله r باطناً وظاهراً، وأن يثبتنا على ذلك حتى نلقاه وهو راضٍ عنا([137]).
# # #
المبحث الثالث: الحُجَجُ والبراهين على صدقه r
تمهيـد:
ظهر على يده r من الآيات والمعجزات الخارقة للعادات عند التحدي أكثر من سائر الأنبياء، والعهد بهذه المعجزات قريب،وناقلوها أصدق الخلق وأبرّهم، ونَقْلُها ثابت بالتَّواتُر قرناً بعد قرن،وأعظمها مُعجزة: القرآن، لم يتغير ولم يتبدّل منه شيء،بل كأنه منزل الآن، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذي أخبر به،كأنه يُشاهدُه عياناً،وقد عجز الأوّلون والآخرون عن الإتيان بمثله ] قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالـْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [([138]).
ولا يمكن ليهودي أن يؤمن بنبوة موسى r إن لم يؤمن بنبوة محمد r، ولا يمكن لنصراني أن يُقِرّ بنبوة المسيح r إلا بعد إقراره بنبوة محمد r؛ لأن من كفر بنبوة نبي واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه ببعضهم دون بعض، كما قال تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا [([139]).
ولا ينفع أهل الكتاب شهادة المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام؛ لأن المسلمين آمنوا بهما على يد محمد r، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد r، وبما جاء به، فلولاه ما عرفنا نبوّتهما، ولا سيما وليس بأيدي أهل الكتاب عن أنبيائهم ما يُوجب الإيمان بهم؛ فلولا القرآن ومحمد r ما عرفنا شيئاً من آيات الأنبياء المتقدمين، فمحمد r وكتابه هو الذي قرّر نبوّة موسى وعيسى، لا اليهود والنصارى، بل نفس ظهوره، ومجيئه تصديقاً لنبوتهما؛ فإنهما أخبرا بظهوره، وبشّرا بظهوره:
]
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [([140])، فلما بُعث كان بعثه تصديقاً لهما، قال تعالى عن محمد r: ] بَلْ جَاءَ بِالـْحَقِّ وَصَدَّقَ الـْمُرْسَلِينَ [([141]).
فمجيئه تصديق لهما من جهتين: من جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به وشهادته بنبوتهم، ولو كان كاذباً لم يصدق من قبله، كما يفعل أعداء الأنبياء([142]).
ومن أعظم الأدلة على صدقه r أنه قال لليهود لما بهتوه: ] فَتَمَنَّوُا الـْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [([143])، ولم يجسر أحد منهم على ذلك - مع اجتماعهم على تكذيبه وعداوته - لما أخبرهم بحلول الموت بهم إن أجابوه إلى ذلك، فلولا معرفتهم بحاله في كتبهم، وصدقه فيما يخبرهم به لسألوا الله الموت لأي الفريقين أكذب، منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة([144])، ونظير ذلك قوله تعالى: ] قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لله مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الـْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَالله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [([145]).
وغير ذلك من دلائل نبوته وصدقه([146]) r التي سأذكرها -إن شاء الله تعالى-.
ولا شكَّ أن الآيات والبيّنات الدالّة على نبوته r وعموم رسالته كثيرة متنوعة، وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء، وجميع الأنواع تنحصر في نوعين:
أ - منها:ما مضى وصار معلوماً بالخبر الصّادق كمعجزات موسى وعيسى.
ب - ومنها: ما هو باق إلى اليوم كالقرآن، والعلم والإيمان اللذين في أتباعه، فإن ذلك من أعلام نبوته، وكشريعته التي أتى بها، والآيات التي يظهرها الله وقتاً بعد وقتٍ من كرامات الصّالحين من أمته، وظهور دينه بالحجّة والبرهان، وصفاته الموجودة في كتب الأنبياء قبله وغير ذلك([147])، وهذا باب واسع لا أستطيع حصره؛ ولكن سأقتصر في إثبات نبوته r على مطلبين على النحو التالي:
المطلب الأول: معجزات القرآن العظيم:
المعجزة لغة: ما أُعجِزَ به الخصم عند التحدي([148]).
وهي أمر خارق للعادة يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله، يجعله الله على يد من يختاره لنبوّته؛ ليدلّ على صدقه وصحّة رسالته([149]).
والقرآن الكريم كلام الله المنزّل على محمد r هو المعجزة العظمى، الباقية على مرور الدّهور والأزمان، المعجز للأولين والآخرين إلى قيام الساعة([150])، قال r: ((ما من الأنبياء نبيّ إلا أُعطي من الآيات على ما مثله آمن البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة))([151]).
وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته r في القرآن، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسّيّة كمن تقدّمه، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره؛لأن كل نبي أُعطِيَ معجزة خاصة به، تحدّى بها من أُرسِلَ إليهم، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه؛ولهذا لما كان السحر فاشياً في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السّحرة،لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره.
ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم.
ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله سبحانه معجزة نبينا محمد r القرآن الكريم الذي([152]) ] لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [([153]).
ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات؛ لأنه حجة مستمرّة، باقية على مرّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السّامع من فم رسول الله r، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال r: ((فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يومَ القيامةِ))([154]).
والقرآن الكريم آية بيّنة، معجزة من وجوه متعدّدة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، والبلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها، ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة التي ذكر كل عالم ما فتح الله عليه به منها([155])، وسأقتصر على أربعة وجوه من باب المثال لا الحصر بإيجاز كالآتي:
الوجه الأول: الإعجاز البياني والبلاغي:
من الإعجاز القرآني ما اشتمل عليه من البلاغة والبيان،والتركيب المعجز،الذي تحدّى به الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله،فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: ] قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالـْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [([156])،وقال تعالى: ] أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ [([157]).
وبعد هذا التحدّي انقطعوا فلم يتقدّم أحد، فمدّ لهم في الحبل وتحدّاهم بعشر سور مثله: ] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [[158])،فعجزوا فأرخى لهم في الحبل فقال تعالى: ] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [([159])،ثم أعاد التحدي في المدينة بعد الهجرة، فقال تعالى: ] وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالـْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [([160]).
فقوله تعالى: ] فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ [ أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، فثبت التحدّي وأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بسورة من مثله فيما يستقبل من الزمان، كما أخبر قبل ذلك، وأمر النبي وهو بمكة أن يقول: ] قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالـْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [([161]).
فعم بأمره له أن يخبر جميع الخلق معجزاً لهم، قاطعاً بأنهم إذا اجتمعوا لا يأتون بمثل هذا القرآن، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحدي لجميع الخلق، وقد سمعه كل من سمع القرآن، وعرفه الخاص والعام، وعلم مع ذلك أنهم لم يعارضوا، ولا أتوا بسورة مثله من حين بُعِثَ r إلى اليوم والأمر على ذلك([162]).
والقرآن يشتمل على آلاف المعجزات؛ لأنه مائة وأربع عشرة سورة، وقد وقع التحدي بسورة واحدة، وأقصر سورة في القرآن سورة الكوثر، وهي ثلاث آيات قصار، والقرآن يزيد بالاتفاق على ستة آلاف ومائتي آية، ومقدار سورة الكوثر من آيات أو آية طويلة على ترتيب كلماتها له حكم السورة الواحدة، ويقع بذلك التحدي والإعجاز([163])؛ ولهذا كان القرآن الكريم يغني عن جميع المعجزات الحسّيّة والمعنوية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
الوجه الثاني: الإخبار عن الغيوب:
من وجوه الإعجاز القرآني أنه اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد r بها، ولا سبيل لبشر مثله أن يعلمها، وهذا مما يدلّ على أن القرآن كلام الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية: ] وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ
مُّبِينٍ [([164]).
والإخبار بالغيوب أنواع:
النوع الأول: غيوب الماضي: وتتمثل في القصص، الرائعة وجميع
ما أخبر الله به عن ماضي الأزمان.
النوع الثاني: غيوب الحاضر: أخبر الله رسوله r بغيوب حاضرة، ككشف أسرار المنافقين، والأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين، أو غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأطلع عليه رسوله r.
النوع الثالث: غيوب المستقبل: أخبر الله رسوله r بأمور لم تقع، ثم وقعت كما أخبر، فدلّ ذلك على أن القرآن كلام الله، وأن محمداً r رسول الله([165]).
الوجه الثالث: الإعجاز التشريعي:
القرآن العظيم جاء بهدايات كاملة تامّة، تفي بحاجات جميع البشر في كل زمان ومكان؛ لأن الذي أنزله هو العليم بكل شيءٍ، خالق البشرية والخبير بما يُصلحها ويُفسدها، وما ينفعها ويضرّها، فإذا شرع أمراً جاء في أعلى درجات الحكمة والخبرة: ] أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الـْخَبِيرُ [([166]).
ويزداد الوضوح عند التأمل في أحوال الأنظمة والقوانين البشرية التي يظهر عجزها عن معالجة المشكلات البشرية ومسايرة الأوضاع والأزمنة والأحوال، مما يضطر أصحابها إلى الاستمرار في التعديل والزيادة والنقص، فَيُلْغُونَ غداً ما وضعوه اليوم؛ لأن الإنسان محلّ النقص والخطأ، والجهل لأعماق النفس البشرية، والجهل بما يحدث غداً في أوضاع الإنسان وأحواله وفيما يصلح البشرية في كل عصر ومصر.
وهذا دليل حسّي مُشاهد على عجز جميع البشر عن الإتيان بأنظمة تُصْلِحُ الخلق وتقوّمُ أخلاقهم، وعلى أن القرآن كلام الله سليم من كل عيب، كفيل برعاية مصالح العباد، وهدايتهم إلى كلِّ ما يُصلح أحوالهم في الدنيا والآخرة إذا تمسكوا به واهتدوا بهديه([167])، قال تعالى: ] إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الـْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لـَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [([168]).
وبالجملة فإن الشريعة التي جاء بها كتاب الله تعالى مدارها على ثلاث مصالح:
المصلحة الأولى:درء المفاسد عن ستة أشياء([169]):حفظ الدين،والنفس، والعقل، والنّسب، والعرض، والمال.
المصلحة الثانية: جلب المصالح([170]): فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين، وسدّ كل ذريعة تؤدي إلى الضرر.
المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن الكريم حلَّ جميع المشكلات العالمية التي عجز عنها البشر، ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطرق وأعدلها([171]).
الوجه الرابع: الإعجاز العلمي الحديث:
يتصل بما ذكر من إعجاز القرآن في إخباره عن الأمور الغيبية المستقبلة نوع جديد كشف عنه العلم في العصر الحديث، مصداقاً لقوله تعالى:
]
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لـَهُمْ أَنَّهُ الـْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [([172]).
لقد تحقّق هذا الوعد من ربنا في الأزمنة المتأخرة، فرأى الناس آيات الله في آفاق المخلوقات بأدقّ الأجهزة والوسائل: كالطائرات، والغواصات، وغير ذلك من أدقِّ الأجهزة الحديثة التي لم يمتلكها الإنسان إلا في العصر الحديث... فمن أخبر محمداً r بهذه الأمور الغيبية قبل ألف وأربعمائة وخمس عشرة سنة؟ إن هذا يدلّ على أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول الله r حقّاً.
وقد اكتُشِفَ هذا الإعجاز العلمي: في الأرض وفي السماء، وفي البحار والقفار، وفي الإنسان والحيوان، والنبات، والأشجار، والحشرات، وغير ذلك، ولا يتّسع المقام لذكر الأمثلة العديدة على ذلك([173]).
المطلب الثاني: معجزات النبي r الحسية:
معجزات النبي r الحسّيّة الخارقة للعادة كثيرة جدّاً([174])،لا أستطيع حصرها،وسأقتصر بإيجاز على ذكر تسعة أنواع منها على سبيل المثال،كالآتي:
النوع الأول: المعجزات العلوية:
1 -
من هذه المعجزات انشقاق القمر: وهذه من أمهات معجزاته r الدّالّة على صدقه، فقد سأل أهل مكة رسول الله r أن يُريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا جبل حِرَاء بينهما([175])، قال الله تعالى: ] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ
مُّسْتَمِرٌّ... [ الآيات([176]).
2 -
صعوده r ليلة الإسراء والمعراج إلى ما فوق السموات: وهذا ما أخبر به القرآن الكريم، وتواترت به الأحاديث، قال تعالى: ] سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الـْمَسْجِدِ الـْحَرَامِ إِلَى الـْمَسْجدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير [([177]).
وهذه الآية من أعظم معجزاته r، فإنّه أُسرِيَ به إلى بيت المقدس، وقطع المسافة في زمن قصير، ثم عُرِجَ به إلى السموات، ثم صعد إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ورأى الجنة، وفرضت عليه الصلوات، ورجع إلى مكة قبل أن يُصبح، فكذَّبته قريش، وطلبوا منه علامات تدلّ على صدقه، ومن ذلك علامات بيت المقدس؛ لعلمهم بأنه r لم يرَ بيت المقدس قبل ذلك، فجلَّى الله له بيت المقدس ينظر إليه ويخبرهم بعلاماته وما سألوا عنه([178]).
وغير ذلك من الآيات العلوية،كحراسة السماء بالشّهب عند بعثته r.
النوع الثاني: آيات الجوّ:
1 -
من هذه المعجزات طاعةُ السَّحاب له r، بإذن الله تعالى في حصوله ونزول المطر وذهابه بدعائه r([179]).
2 -
ومن هذا النوع نصر الله للنبي r بالرِّيح التي قال تعالى عنها:
]
إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [([180])، وهذه الرِّيحُ هي ريح الصَّبا، أرسلها على الأحزاب، قال r: ((نُصِرْتُ بالصّبَا، وأُهْلِكَت عادٌ بالدَّبُور))([181])، وغير ذلك.
النوع الثالث: تصرّفه في الإنس والجن والبهائم:
وهذا باب واسع، منه على سبيل المثال:
أ - تصرفه في الإنس:
1 -
كان علي بن أبي طالب t يشتكي عينيه من وجع بهما، فبصَقَ رسول الله r فيهما ودعا له فبرأ، كأن لم يكن به وجع([182]).
2 -
انكسرت ساق عبد الله بن عتيك t فمسحها رسول الله r، فكأنها لم تنكسر قطُّ([183]).
3 -
أُصِيبَ سلمة بن الأكوع بضربة في ساقه يوم خيبر، فنفث فيها رسول الله r ثلاث نفثات، فما اشتكاها سلمة بعد ذلك([184]).
ب - تصرفه في الجنّ والشياطين:
1 -
كان r يُخرِج الجنّ من الإنس بمجرد المخاطبة. فيقول: ((اخرج عدوّ الله أنا رسول الله))([185]).
2 -
أخرج الشيطانَ من صدر عثمان بن أبي العاص، عندما ضرب صدر عثمان بيده ثلاث مرات وتفل في فمه وقال: ((اخرج عدوّ الله)) فعل ذلك ثلاث مرات، فلم يُخالط عثمانَ الشيطانُ بعد ذلك([186]).
جـ - تصرّفه في البهائم:
وقد حصل له مراراً، ومن ذلك أنه جاء بعير فسجد للنبي r، فقال أصحابه: يا رسول الله! تسجد لك البهائم، والشّجر، فنحن أحقّ أن نسجد لك، فقال r: ((اعبُدُوا ربَّكمُ، وأكرِمُوا أخَاكُم، ولو كنتُ آمراً أحداً أن يَسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لِزَوجِها..))([187]).
النوع الرابع: تأثيره في الأشجار والثمار والخشب
أ - تأثيره في الأشجار:
1 -
جاء أعرابي إلى رسول الله r وهو في سفر. فدعاه رسول الله r إلى الإسلام، فقال الأعرابي: ومن يشهد لك على ما تقول؟ فقال رسول الله r: ((هذه السَّلَمَة))([188])، فدعاها رسول الله r وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخدّ([189]) الأرض خَدّاً حتى قامَتْ بين يديه، فأشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً أنه كما قال، ثم رجعَتْ إلى مَنْبَتِهَا([190]).
2 -
أراد رسول الله r أن يقضي حاجته وهو في سفر، فلم يجد
ما يستتر به، فأخذ بغصن شجرة وقال: ((انقادي عليَّ بإذنِ الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوم([191]) حتى أتى الشجرةَ الأخرى ففعل وقال كذلك، ثم أمرهما أن تلتئما عليه فالتأمتا، ثم بعد قضاء الحاجة رجعت كل شجرة، وقامت كل واحدة منهما على ساق([192]).
ب - تأثيره في الثّمار:
جاء أعرابي إلى رسول الله r فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العِذق من هذه النخلة أتشهد أنّي رسول الله))؟ فدعاه رسول الله r فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي r، ثم قال: ((ارجع))، فعاد، فأسلم الأعرابي([193]).
جـ - تأثيره في الخشب:
كان r يخطب في المدينة يوم الجمعة على جذع نخل، فلما صُنع له المنبر ورَقِيَ عليه صاحَ الجذعُ صياحَ الصَّبي، [وخارَ كما تَخُورُ البقرة، جزعاً على رسول الله r فالتزمه رسول الله r وضمَّه إليه - وهو يئنّ - ومسحه حتى سكن]([194]).
النوع الخامس: تأثيره في الجبال والأحجار وتسخيرها له:
أ - تأثيره في الجبال:
صعد النبي r أُحداً،ومعه أبو بكر،وعمر،وعثمان،فرجف بهم،فضربه r برجله، وقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي، وصِدّيق، وشهيدان))([195]).
ب - تأثيره في الحجارة:
وقال r: ((إني لأعرف حجراً بمكة كان يُسلِّم عليّ قبل أن أُبعثَ، إنِّي لأعرفه الآن))([196]).
جـ - تأثيره في تراب الأرض:
عندما كان رسول الله r في معركة حنين، واشتدّ القتال، نزل عن بغلته وقبض قبضة من تراب الأرض، واستقبل به وجوه القوم، فقال: ((شَاهَتِ الوجوهُ))، فما خلق الله إنساناً منهم إلا ملأ عينيه من تلك القبضة، فهزمهم الله وقسم غنائمهم بين المسلمين([197]).
النوع السادس: تفجير الماء، وزيادة الطعام والشراب والثمار:
أ - نبع الماء وزيادة الشراب:
هذا النوع حصل لرسول الله r مراتٍ كثيرة جدّاً([198])، ومن ذلك:
1 -
عَطشَ الناسُ في الحديبية، فوضع يده r في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كالعيون، فشربُوا وتوضّؤوا، قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة([199]).
2 -
قدم r تبوك، فوجد عينها كشراك النّعل، فَغُرِفَ له منها قليلاً قليلاً، حتى اجتمع له شيء قليل، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، وبقيت العين إلى الآن([200]).
3 -
قصة أبي هريرة t وقدح اللّبن، وزيادة القدح حتى شرب منه أضياف الإسلام([201]).
ب - زيادة الطعام وتكثيره لما جعل الله فيه r من البركة:
1 -
كان النبي r في ألف وأربعمائة من أصحابه في غزوة،فأصابهم مشقة،فأمر r أن يجمعوا ما معهم من طعام وبسطوا سفرة،وكان الطعام شيئاً يسيراً فبارك فيه، وأكلوا، وحَشوا أوعيتهم من ذلك الطعام([202]).
2 -
بقي الصّحابة والنبي r في غزوة الخندق ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً، فذبح جابر بن عبد الله t عناقاً،وطحنت زوجته صاعاً من شعير، ثم دعا النبي r،فصاح النبي r بأهل الخندق يدعوهم على هذا الطعام اليسير،ثم جاء النبي r وبصقَ في العجين وبارك،وبصقَ في البرمة وبارك، قال جابر رضي الله عنهما:وهم ألف،فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغطّ كما هي([203])،وإن عجيننا ليخبز كما هو([204]).وهذا باب واسع لا يمكن حصره.
جـ - زيادة الثمار والحبوب:
1 -
جاء رجل يستطعم النبي r فأطعمه شطْرَ وَسْقِ شعيرٍ، فما زال الرجل يأكل منه وأهله حتى كاله، فأتى النبي r فقال: ((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم))([205]).
2 -
كان على والد جابر دين، وما في نخله لا يقضي ما عليه سنين، فجاء جابر إلى رسول الله r ليحضر الكيل، فحضر، ومشى حول الجرن، ثم أمر جابراً أن يكيل فكال لهم حتى أوفاهم، قال جابر t: ((وبقي تمري وكأنه لم ينقص منه شيء))([206]).
النوع السابع: تأييد الله له بالملائكة:
أَيَّد الله رسوله بالملائكة في عدة مواضع، نُصرةً له ولدينه، منها على سبيل المثال:
1 -
في الهجرة،قال المولى جل وعلا:]فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا[([207]).
2 -
في بدر،قال الله تعالى:]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الـْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [([208]).
3 -
في أُحدٍ،قاتل جبريل وميكائيل عليهما السلام عن يمين النبي r ويساره([209]).
4 -
في الخندق قال الله U: ] إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [([210]).
5 -
في غزوة بني قُرَيْظَةَ: جاء جبريل إلى النبي r بعد أن وضع السلاح من غزوة الخندق واغتسل، فقال له جبريل: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه فاخرج إليهم، فسأله النبي r: ((إلى أين))؟ فأشار إلى بني قريظة، فخرج r، ونصره الله عليهم([211]).
6 -
في حنين، قال الله I: ] ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الـْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [([212]).
النوع الثامن: كفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس:
هذا النوع من أعظم الآيات الدالّة على صدق رسالة محمد r،ومن ذلك:
1 -
كفاه الله تعالى المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى: ] فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الـْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الـْمُسْتَهْزِئِينَ [([213]).
2 -
كفاه الله تعالى أهل الكتاب،قال تعالى:]فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [([214]).
3 -
وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: ] يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [([215]).
وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكلُّ من هذه الأخبار الثلاثة قد وقعت كما أخبر الله تعالى، فقد كفاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه.
ومن ذلك أن رجلاً نصرانيّاً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي r ثم ارتدّ وعاد نصرانيّاً، فكان يقول: ما يَدْرِي محمد إلا
ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذاً على ظهرها فأعادوا دفنه وأعمقوا له فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذاً([216]).
النوع التاسع: إجابة دعواته r:
الأدعية التي دعا بها النبي r وشُوهدت إجابتها كالشمس في رابعة النهار كثيرة جدّاً، لا تُحصر ولا يتّسع المقام لذكر أكثرها، ولكن منها على سبيل المثال:
1 -
قال r لأنس t: ((اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته))([217])، [وأطل حياته، واغفر له]([218])، قال أنس: فوالله إنّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة اليوم([219])، [وحدثتني ابنتي أمينة أنه دُفِنَ لصلبي مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة]([220]).
وكان له t بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منها ريح المسك([221]).
2 -
ودعا r لأم أبي هريرة بالهداية فهداها الله فوراً، وأسلمت([222]).
3 -
وقال r لعروة بن أبي الجعد البارقي: ((اللهم بارك له في صفقة يمينه))، فكان يقف في الكوفة ويربح أربعين ألفاً قبل أن يرجع إلى أهله([223])، [وكان لو اشترى التراب لربح فيه]([224]).
4 -
ودعاؤه r على بعض أعدائه، فلم تتخلّف الإجابة، كأبي جهل، وأميّة، وعقبة، وعتبة([225]).
5 –
ودعاؤه r يوم بدر، ويوم حنين، وعلى سراقة بن مالك t ، وغير ذلك كثير([226]).
والحقيقة أن العاقل المنصف يقف أمام هذه الدلائل والبينات مذعوراً، ولا يسعه إلا أن يقول:أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله r.
# # #
المبحث الرابع: حقوقه على أمته r
1 -
الإيمان الصادق به r وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: ] فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [([227])، ] فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [([228])، ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [([229])، ] وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا [([230])،وقال r:((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به))([231]).
والإيمان به r هو تصديق نبوته، وأن الله أرسله للجن والإنس، وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله،ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان،بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك بالعمل بما جاء به تمَّ الإيمان به r([232]).
2 -
وجوب طاعته r والحذر من معصيته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به، قال تعالى:
]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ
تَسْمَعُونَ [([233])، ] وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [([234])، ] قُلْ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [([235])، ] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [([236])، ] وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [([237])، ] وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
مُّبِينًا [([238])، ] وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [([239]).
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله))([240])، وعنه t قال: قال رسول الله r: ((كل الناس يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))([241]).
وعن ابن عمر t قال: قال رسول الله r: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رِزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم))([242]).
3 -
اتباعه r واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه، قال تعالى:]قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ [([243])، ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لـِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا[([244])،وقال تعالى:] وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [([245]) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته،قال r:((فمن رغب عن سنتي فليس مني))([246]).
4 -
محبته r أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، قال الله تعالى: ] قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [([247])،وعن أنس t قال: قال رسول الله r: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))([248]). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال:((ما أعددت لها))؟ قال:يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام،ولا صلاة،ولا صدقة،ولكني أحب الله ورسوله.قال:((فأنت مع من أحببت))([249]).قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي r:((فإنك مع من أحببت))،فأنا أحب الله ورسوله،وأبا بكر،وعمر.فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم([250]).
ولما قال عمر بن الخطاب t: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي r: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي r: ((الآن يا عمر))([251])، وعن ابن مسعود t قال: جاء رجل إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله r: ((المرء مع من أحب))([252]).
وعن العباس بن عبد المطلب t أنه سمع رسول الله r يقول: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً))([253]).
وقال r: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))([254]).
ولا شك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاق في رضى الله U ورسوله r، ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد r؛ لأنه رضي به رسولاً، وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه r؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُُظهر حُبَّهُ
هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته
إن المحُبَّ لمن يُحبُّ مُطيعُ([255])
وعلامات محبته r تظهر في الاقتداء به r، واتباع سنته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، ولا شك أن من أحب شيئاً آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً([256]).
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله r: ((الدين النصيحة)) قلنا لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم))([257])، والنصيحة لرسوله r: التصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومُؤازرته، ونصرته وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها، وتعليمها والذب عنها، ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة([258]).
5 -
احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: ] لِتُؤْمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [([259])، ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ [([260])، ] لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا [([261]).
وحرمة النبي r بعد موته، وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها، ونصرتها([262]).
6 -
الصلاة عليه r قال الله تعالى: ] إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [([263])، وقال r: ((.. من صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً))([264])، وقال r: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلّوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))([265])، وقال r: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ))([266])، وقال r: ((ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم))([267])، وقال r: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام))([268])، وقال جبريل u للنبي r: ((رغم أنف عبد - أو بَعُد - ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك)) فقال r: ((آمين))([269])، وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: ((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام))([270]).
*
وللصلاة على النبي r مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واحداً وأربعين موطناً، منها على سبيل المثال: الصلاة عليه r عند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم، وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة، وعند كتابة اسمه، وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات، وآخر دعاء القنوت، وعلى الصفا والمروة، وعند الوقوف على قبره، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه، وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه([271]).
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي r إلا حديث أنس t لكفى ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلى الله عليه عشر صلوات([272])، [كتب الله له بها عشر حسنات]([273]) وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات))([274]).
7 -
وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه r، قال الله تعالى: ] فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [([275])، ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [([276]) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده r.
8 -
إنزاله مكانته r بلا غلو ولا تقصير، فهو عبد الله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: ] قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ [([277])، وقال تعالى: ] قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الـْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [([278])، ] قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [([279])، وقد مات r كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيامة ] إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [([280])، ] وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الـْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الـْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الـْمَوْتِ [([281])، وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له ] قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الـْمُسْلِمِينَ [([282]).
# # #
المبحث الخامس: عموم رسالته r وختمها لجميع النبوات
إنّ أصل الأصول هو تحقيق الإيمان بما جاء به محمد r، وأنه رسول الله إلى جميع الخلق:إنسهم وجنّهم،عربهم وعجمهم، كتابيِّهم ومجوسيِّهم، رئيسهم ومرؤوسهم، وأنه لا طريق إلى الله U لأحد من الخلق إلا بمتابعته r باطناً وظاهراً، حتى لو أدركه موسى وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى:
]
وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لـِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [([283]).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حيٌّ ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به، ولينصرنه))([284])؛ ولهذا جاء في الحديث: ((لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حلّ له إلا أن يتبعني))([285]).
ومن خالف عموم رسالة النبي r لا يخلو من أحد أمرين:
1 -
إما أن يكون المخالِفُ مؤمناً بأنه مرسل من عند الله؛ ولكنه يقول رسالته خاصة بالعرب.
2 -
وإما أن يكون المخالف منكراً للرسالة جملةً وتفصيلاً.
فأما المعترف له بالرسالة؛ولكنه يجعلها خاصة بالعرب فإنه يلزمه أن يصدقه في كل ما جاء به عن الله تعالى،ومن ذلك عموم رسالته،ونسخها للشرائع قبلها،فقد بيّن r أنه رسول الله إلى الناس أجمعين،وأرسل رسله،وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى،وقيصر،والنجاشي، وسائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ثم قاتل من لم يدخل في الإسلام من المشركين،وقاتل أهل الكتاب، وسبى ذراريهم،وضرب الجزية عليهم،وذلك كلّه بعد امتناعهم عن الدخول في الإسلام،أما كونه يؤمن برسول ولا يصدّقه في جميع ما جاء به فهذا تناقض ومكابرة.
*
وأما المنكر لرسالة نبينا محمد r مطلقاً، فقد قام البرهان القاطع على صدق صاحب الرسالة r، ولا تزال معجزات القرآن تتحدى الإنس والجنّ، فإمَّا أن يأتي بما يُناقض المعجزة القائمة وإلا لزمه الاعتراف بمدلولها، فإن اعترف بالرسالة لزمه التّصديق بكل ما أخبر به الرسول r، وإن ذهب يُكابر ويُعاند ليأتي بقرآن مثل ما جاء به محمد r وقع في العجز وفضح نفسه لا محالة؛ لأن أصحاب الفصاحة والبلاغة قد عجزوا عن ذلك، ولا شك أن غيرهم أعجز عن هذا؛ لأن القرآن معجزة قائمة مستمرة خالدة([286]).
وحينئذ يلزم جميع الخلق العمل بما فيه، والتحاكم إليه.
وقد صرح القرآن الكريم بأن محمداً r رسول إلى جميع الناس، وخاتم النبيين، قال تعالى: ] قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالله وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[([287])، وقال تعالى: ] تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [([288])،
]
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [([289]).
وهذا تصريح بعموم رسالته لكل من بلغه القرآن.
وصرح تعالى بشمول رسالة النبي r لأهل الكتاب، فقال: ] وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [([290])، ] مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [([291])، ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [([292])، ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [([293]).
وبلغ r الناس جميعاً أنه خاتم الأنبياء، وأن رسالته عامّة، قال r: ((أعطيت خمساً لم يُعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي))، وذكر منها: ((وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعثت إلى الناس كافّةً))... الحديث([294]).
وقال r: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية،فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون:هلاّ وُضِعت هذه اللبنة))؟ قال:((فأنا اللّبِنةُ،وأنا خاتم النبيين))([295]).
وعموم رسالته r لجميع الإنس والجنّ في كل زمان ومكان من بعثته إلى يوم القيامة،وكونها خاتمة الرسالات،يقضي ويدلّ دلالة قاطعة على أن النبوة قد انقطعت بانقطاع الوحي بعده،وأنه لا مصدر للتشريع والتعبد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسوله r،وهذا يقتضي وجوب الإيمان بعموم رسالته،واتباع ما جاء به،فقد قال r:((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار))([296]).وبهذا تقوم الحجة وتثبت رسالة النبي r وعمومها وشمولها لجميع الثقلين:الإنس والجنّ،في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة: ] قَدْ جَاءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [([297])،]وَقُلِ الـْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ... [([298]).
# # #
المبحث السادس: تحريم الغلو فيه r
1 -
الغلو في الصالحين هو سبب الشرك بالله تعالى، فقد كان الناس منذ أُهبِطَ آدم r إلى الأرض على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام))([299]).
وبعد ذلك تعلَّق الناس بالصالحين، ودبَّ الشرك في الأرض، فبعث الله نوحاً r يدعو إلى عبادة الله وحده، وينهى عن عبادة ما سواه([300])، وردّ عليه قومه: ] وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [([301]).
وهذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسِيَ العلم عُبِدت))([302]).
وهذا سببه الغلو في الصالحين؛ فإن الشيطان يدعو إلى الغلو في الصالحين وإلى عبادة القبور، ويُلقي في قلوب الناس أن البناء والعكوف عليها من محبة أهلها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها، وشأن الله أعظم من أن يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم إلى دعاء صاحب القبر وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلّق عليه الستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويذبح عنده، ثم ينقلهم من ذلك إلى مرتبة رابعة: وهي دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيداً، ثم ينقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تَنقَّصَ أهل هذه الرتب العالية من الأنبياء والصالحين، وعند ذلك يغضبون([303]).
ولهذا حذّر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ورفع المخلوق عن منزلته التي أنزله الله تعالى، كما قال تعالى: ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الـْحَقِّ إِنَّمَا الـْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ [([304])؛ ولهذا حذّر رسول الله عن الإطراء فقال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله))([305])، وقال: ((إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين))([306]).
2 -
وحذَّر r عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم؛ ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله r كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة))([307]).
ومن حرص النبي r على أمته أنه عندما نزل به الموت قال:((لَعْنَةُ الله على اليهود والنصارى،اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا([308]).
وقال قبل أن يموت بخمس: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))([309]).
3 -
وحذّر r أمته عن اتخاذ قبره وثناً يُعبد من دون الله، ومن باب أولى غيره من الخلق، فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))([310]).
ولعن r من اتخذ المساجد على القبور؛ لينفِّر عن هذا الفعل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله r زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج))([311]).
ولم يترك r باباً من أبواب الشرك التي تُوصل إليه إلا سدّه([312])،قال r: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها))([313]).
وقد بيّن r أن القبور ليست مواضع للصلاة، وأن من صلى عليه وسلم فستبلغه صلاته سواء كان بعيداً عن قبره أو قريباً، فلا حاجة لاتخاذ قبره عيداً: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))([314]).
وقال r:((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلّغوني من أمتي السلام))([315]).
وإذا كان قبر النبي r أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً، فغيره أولى بالنهي كائناً من كان([316]).
وقد كان r يطهر الأرض من وسائل الشرك،فيبعث بعض أصحابه إلى هدم القباب المشرفة على القبور، وطمس الصور،فعن أبي الهياج الأسدي قال:قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللهr؟ ((أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته))([317]).
4 -
وكما سد r كل باب يوصّل إلى الشرك فقد حمى التوحيد عما يقرب منه ويخالطه من الشرك وأسبابه، فقال r: ((لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى))([318]).
فدخل في هذا النهي شدّ الرحال لزيارة القبور والمشاهد،وهو الذي فهمه الصحابة y من قول النبي r؛ ولهذا عندما ذهب أبو هريرة t إلى الطور،فلقيه بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فقال: من أين جئت؟ قال: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت إليه، سمعت رسول الله r يقول: ((لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد...))([319]).
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد اتفق الأئمة على أنه لو نذر أن يسافر إلى قبره r أو غيره من الأنبياء والصالحين لم يكن عليه أن يوفي بنذره، بل ينهى عن ذلك))([320]).
5 -
أنواع زيارة القبور: زيارة القبور نوعان:
النوع الأول: زيارة شرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات صلاة الجنازة، ولتذكر الموت - بشرط عدم شدِّ الرِّحال - ولاتباع سنة النبي r.
النوع الثاني: زيارة شركية وبدعية([321])، وهذا النوع ثلاثة أنواع:
1 -
من يسأل الميت حاجته، وهؤلاء من جنس عُبَّاد الأصنام.
2 -
من يسأل الله تعالى بالميت، كمن يقول: أتوسل إليك بنبيك، أو بحق الشيخ فلان، وهذا من البدع المحدثة في الإسلام، ولا يصل إلى الشرك الأكبر، فهو لا يُخرِجُ عن الإسلام كما يُخرِج الأول.
3 -
من يظنّ أن الدعاء عند القبور مُستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، وهذا من المنكرات بالإجماع([322]).
# # #

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مدونة غريب القران مشمولة والفيزيا 3ث

  🆀غريب القران بيان غريب القران رائع ...